الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( لا المساوي والأقرب )

                                                                                                                            ش : تصوره ظاهر ( مسألة ) : من باع من بعض ولده دارا أو ملكا وذكر في العقد أنه باعه ذلك بيعا صحيحا بثمن قبضه ، فقام باقي الورثة على المشتري ، فذكروا أن البيع ليس بصحيح ، وأنه لم يدفع فيه ثمنا وأنه توليج من الأب إليه ، فلا وجه لدعواهم عليه ، ولا يمين عليه إلا أن يثبتوا أن الأب كان يميل إليه ، فتتعلق اليمين عليه ( تنبيه ) : قالوا ولو شهدت البينة بمعاينة القبض لم تترتب يمين على الابن ، وإن شهدت البينة بميل الأب إليه وانحرافه عن سائر ولده ، وإن كان الأب أقر بعد ذلك بالتوليج لم يضر ذلك الابن انتهى . من معين الحكام وفي وثائق الغرناطي ولا يثبت التوليج إلا بإقرار المولج إليه انتهى من المسائل الملقوطة .

                                                                                                                            ( فرع ) : في حكم من أقر بشيء في صحته لبعض ورثته فيقدم المقر له بعد موت المقر ويقيم البينة على الإقرار قال في رسم البراءة من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح وسألته عن الرجل يقر لولده ولامرأته ولبعض من يرثه بدين في الصحة ، ثم يموت الرجل بعد سنين فيطلب الوارث الدين الذي أقر له به قال ذلك له إذا أقر به في الصحة امرأة كانت أو ولدا فما أقر له به في الصحة فذلك له ابن رشد هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك المشهور في المذهب ، ووقع في المبسوط لابن كنانة والمخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن مسلمة أنه لا شيء له وإن أقر له في صحته إذا لم يقم عليه بذلك بينة حتى هلك إلا أن يعرف سبب ذلك عسى أن يكون قد باع له أصلا أو أخذ من موروث أمه شيئا فإن عرف ذلك وإلا فلا شيء له ، وهو قول له وجه من النظر ; لأن الرجل يتهم أن يقر بدين في صحته لمن يثق به من ورثته على أن لا يقوم به حتى يموت فيكون وصية لوارث وبالله التوفيق انتهى . وقال في آخر سماع أصبغ من كتاب الوصايا : وسئل عن الرجل يموت فيترك عمه وأمه وتقوم الأم بدين لها كان أقر لها به في الصحة قال : لا كلام للعم قلت أرأيت إن طلب منها اليمين أن ذلك كان توليجا ؟ قال أصبغ أما في الحكم فلا يلزمها قال ابن رشد : هذا هو المشهور في المذهب أن إقرار الرجل لوارثه بالدين في الصحة جائز وإن لم يقم به إلا بعد موته وقال ابن كنانة : يجوز له إقراره لها في حياته ، ولا يجوز له بعد وفاته إلا أن يعرف لذلك سبب مثل أن يكون باع له رأسا أو أخذ له موروثا وبه قال المخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن مسلمة وقول أصبغ في اليمين إنها لا تلزمها في الحكم يريد من أجل أنها يمين تهمة فقوله على القول بسقوط يمين التهمة والأظهر في هذه المسألة لحوق اليمين مراعاة لقول من لم يعمل الإقرار بعد الموت والله أعلم ا هـ .

                                                                                                                            وصرح ابن سلمون بلزوم اليمين إن ثبت ميل الميت للمقر له ذكره في فصل التصيير في ترجمة البيوع ومثل الإقرار بالدين ما إذا صير الأب لابنه دارا أو عرضا في دين أقر به له فإن كان يعرف سبب ذلك الدين جاز له التصيير سواء كان في الصحة أو في المرض ، وإن لم يعرف أصله فحكمه حكم الإقرار بالدين فإن كان في الصحة ، ففيه قولان ( أحدهما ) : إنه نافذ ويأخذه من [ ص: 222 ] تركته في الموت ويحاص به الغرماء ، وهو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية قال المتيطي وعليه العمل ( والثاني ) : أنه لا يحاص به الغرماء ، ولا يأخذه من التركة وهو قول المدنيين انتهى من ابن سلمون فتحصل من هذا أن الإقرار للوارث بشيء إذا قام به المقر له بعد موت المقر وشهدت به البينة فإن كان يعرف وجه ذلك أو سبب يدل عليه جاز ذلك وسواء كان الإقرار في الصحة أو في المرض وإن لم يعرف وجهه ، ولا سببه وكان الإقرار في الصحة ففيه قولان :

                                                                                                                            ( أحدهما ) : إنه نافذ ويؤخذ من تركته في الموت ويحاص به الغرماء في الفلس وهو قول ابن القاسم في المدونة والعتبية ( والثاني ) : أنه لا يحاص به الغرماء في الفلس ، ولا يأخذه من التركة في الموت وهو قول المدنيين للتهمة عندهم قال ابن رشد : لا يحاص به على قول ابن القاسم إلا مع الدين الذي استدانه بعد الإقرار ، وأما القديم قبل الإقرار فإن ثبت ميله إليه ، فيلزم المقر له اليمين على صحة ترتب ذلك قبله ، واختار ابن رشد إبطال الإقرار بالدين مراعاة لقول المدنيين والله أعلم ( مسألة ) وإن ولاه ما اشتراه بثمن كثير بثمن يسير أو أشهد أنه باعه منزله بشيء يسير ، وهو يساوي شيئا كثيرا ، فذلك توليج كما صرح به في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات وفي رسم كتب عليه ذكر حق وفي سماع أصبغ الثاني الواقع بعد سماع أبي زيد منه واختلف بعد ذلك هل يبطل ذلك مطلقا ؟ وهو قول أصبغ ; لأنه لم يسم هبة فيكفي فيه الحوز وعزاه لابن القاسم أو يكون كالهبة إن حازه الأب له جاز ، وهو قول مالك وغيره ، وأما إذا أقر له بشيء في يده من مال أو متاع فحكمه حكم الهبة قال ابن رشد : في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الوصايا إقرار الرجل بما في يديه من الدور والمتاع التي لا يعرف ملكه لها إنها لابنه من ميراثه في أمه كإقراره له في مرضه بالدين من ذلك لا يجوز إلا أن يشبه قوله ويعرف وجه إقراره أنه كان لأمه من المال نحو ما أقر به ، وكذلك في كتاب ابن المواز إن أقر الرجل في مرضه بالدين لابنه لا يقبل منه إلا أن يكون لذلك وجه أو سبب يدل ، وإن لم يكن قاطعا ، ولو كانت الدور التي أقر أنها لابنه من ميراثه في أمه يعرف ملكه لها لم يجز إقراره لابنه بها في مرضه على حال ، ولو أقر له بها في صحته لكان إقراره له بها كالهبة تصح له إن حازها بيد تحويز الآباء لمن يلزمهم من الأبناء على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقة والهبة وفي غيره من المواضع خلاف قول أصبغ في سماعه منه انتهى .

                                                                                                                            يعني أن أصبغ يقول : لا يصح ذلك للابن ، ولو حازه الأب ; لأنه لم يسمه هبة وقال ابن رشد في آخر رسم الوصايا من سماع أشهب من كتاب الوصايا إقرار الرجل في صحته أو في مرضه بما يعرف ملكه له من شيء بعينه أنه لفلان وفلان وارث أو غير وارث يجري مجرى الهبة والصدقة ، ويحل محلها ، ويحكم له بحكمها إن حاز ذلك المقر له به في صحة المقر جاز له ، وإلا لم يجز هذا مما لا اختلاف فيه أحفظه إلا أن يكون أقر له بذلك على سبيل الاعتذار ، فلا يلزمه حسبما مضى القول فيه في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الصدقات والهبات وفي رسم العشور من سماع عيسى من كتاب الدعوى ، والصلح وانظر نوازل ابن رشد في مسائل البيوع والمشذالي في آخر البيوع الفاسدة وأحكام ابن سهل ، وقال البرزلي في كتاب الإقرار ما نصه عن نوازل ابن الحاج من أقر بمال في يده أنه لرجل هو كالهبة إن قام في صحته أخذه وإن قام في مرضه أو بعد موته هو ميراث قال البرزلي : قلت : الأظهر أنه بمنزلة إذا قال رجل أو وجد بخطه لفلان قبلي كذا وثبت إقراره أو خطه بلفظه قبلي ، وقد مرت قبل هذا ، وهذا إذا لم يذكر سببا انتهى .

                                                                                                                            وله نحو ذلك في مسائل الهبة يشير إلى ما قدمه في مسائل القراض وفي مسائل البيوع عن نوازل ابن الحاج أيضا ونصه إذا قال [ ص: 223 ] لرجل أو وجد بخطه لفلان قبلي كذا وثبت إقراره أو خطه فلفظة قبلي محتملة أن يكون أوجب له قبله هبة أو صدقة فموته أو فلسه قبل القبض يبطلها بعد الاستظهار بيمين الورثة في الموت لا يعلمون موروثهم تصدق عليه ، ولا أوجبها قبله ولا أعلمهم بذلك ، ويحتمل أن يكون لفظة قبلي يستوجب بها الحكم بالدين ، وينبغي أن ينظر في حال الرجلين ، فإن قال قبلي من سلف أو معاملة ، فلا إشكال في لزومه هنا انتهى .

                                                                                                                            ( مسألة ) : قال القرافي في قواعده في الفرق الثاني والعشرين بعد المائتين : إذا أقر الوارث أن ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشريعة ، وعلى ما يحمل عليه الديانة ، ثم جاء بشهود أخبروه أن أباهم أشهده أنه تصدق عليه في صغره بهذه الدار وحازها له أو أقر أنه ملكها عليه بوجه شرعي ، فإنه إذا رجع عن إقراره بأن التركة كلها موروثة إلا هذه الدار المشهود له بها دون الورثة ، واعتذر بإخبار البينة له وأنه لم يكن عالما بذلك بل أقر بناء على العادة ، ومقتضى ظاهر الشريعة أنه تسمع دعواه ، ويقبل عذره ويقيم بينته ولا يكون إقراره السابق مكذبا للبينة وقادحا فيها ; لأن هذا عذر عادي يسمع مثله انتهى كلام القرافي بلفظه . وسلمه ابن الشاط وانظر ما قاله القرافي مع ما نقله في النوادر عن سحنون في كتاب ابنه في أواخر كتاب الدعوى والبينات في ترجمة المدعي يكذب بينته ونصه ومن كتاب ابن سحنون وسأله شجرة عمن ادعى دارا بيد امرأة ابنه أنها لابنة تركها بين ورثته وسماهم ، ثم جاء ببينة أخرى أن أباه أشهد له في صحته بنصفها صيره إليه في حق له قبله من قبل ميراثه لأمه ، وذلك عند مخرجه إلى الحج ، ثم رجع فسكنها حتى مات ، فقال له الحاكم قد ادعيتها أولا ميراثا والآن لنفسك قال لم أعلم بهذه البينة الأخيرة قال سحنون : لا يقبل منه يريد ; لأنه كذب بينته بدعواه الأولى انتهى .

                                                                                                                            فعلل عدم قبول دعواه الثانية بأنه كذب بينته بدعواه الأولى فتأمله مع ما قاله القرافي والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية