الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : وإن صام شهر رمضان تطوعا ، وهو يعلم به ، أو لا يعلم فصومه عن شهر رمضان والكلام في هذه المسألة على فصول أحدها أن أصل النية شرط لأداء صوم رمضان إلا على قول زفر رحمه الله تعالى وحجته أن المشروع في زمان رمضان صوم واحد ; لأن الزمان معيار للصوم ولا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد ومن ضرورة استحقاق الفرض فيه انتفاء غيره فما يتصور منه من الإمساك في هذا اليوم مستحق عليه لصوم الفرض فعلى أي وجه أتى به يقع من الوجه المستحق ، وهو نظير من وهب النصاب الذي وجبت فيه الزكاة من فقير جاز عن الزكاة ، وإن لم ينو .

( ولنا ) حرفان أحدهما أن المستحق عليه فعل هو عبادة والعبادة لا تكون إلا بالإخلاص والعزيمة قال : صلى الله عليه وسلم { الأعمال [ ص: 60 ] بالنيات ولكل امرئ ما نوى } ، والثاني أن مع استحقاق الصوم عليه في هذا اليوم بقيت منافعه مملوكة له فإن معنى العبادة لا يحصل إلا بفعل يباشره عن اختيار ويصرف إليه ما هو مملوك له ، وصرف منافعه المملوكة إلى ما هو مستحق عليه على وجه يكون مختارا فيه لا يكون إلا عن قصد وعزيمة ، وفي مسألة هبة النصاب معنى القصد والعزيمة حصل باختيار المحل ومعنى العزيمة حصل لحاجة المحل ألا ترى أن من وهب لفقير شيئا لا يملك الرجوع فيه لحصول المقصود ، وهو الثواب وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله ينكر هذا المذهب لزفر رحمه الله تعالى ويقول المذهب عنده أن صوم جميع الشهر يتأدى بنية واحدة كما هو قول مالك رحمه الله تعالى .

وحجتهما أن صوم الشهر في معنى عبادة واحدة فإن سببها واحد ، وهو شهود جزء من الشهر والشروع فيها في وقت واحد والخروج منها كذلك فكان بمنزلة ركعات صلاة واحدة .

( ولنا ) أن صوم كل يوم عبادة على حدة ألا ترى أن فساد البعض لا يمنع صحة ما بقي وأنه يتخلل بين الأيام زمان لا يقبل الصوم ، وهو الليل ، وإن انعدمت الأهلية في بعض الأيام لا يمنع تقرر الأهلية فيما بقي فكانت بمنزلة صلوات مختلفة فيستدعي كل واحد منهما نية على حدة ثم إن أطلق نية الصوم ، أو نوى النفل فهو صائم عن الفرض عندنا . وقال الشافعي رحمه الله تعالى إن كان يعلم أن اليوم من رمضان فنوى النفل لم يكن صائما ، وإن كان لا يعلم جاز صومه عن النفل ; لأن الخطاب بأداء الفرض لا يتوجه عليه إلا بعد العلم به . وقال ابن أبي ليلى : إن كان يعلم أن اليوم من رمضان جاز صومه عن الفرض ، وإن كان لا يعلم لم يكن صائما ; لأن قصده عند عدم العلم كان إلى أداء النفل غير مشروع في هذا اليوم فهو كنية أداء الصوم في الليل وأنه لغو لكونه غير مشروع فيه . والشافعي رحمه الله تعالى يقول : إن صفة الفريضة قربة كأصل الصوم فكما لا يتأدى أصل الصوم إلا بالنية فكذلك الصفة وبانعدام الصفة ينعدم الصوم ضرورة وعلى هذا إذا أطلق النية لا يجوز ، والوجه الآخر أن بنية النفل صار معرضا عن الفرض لما بينهما من المغايرة فصار كإعراضه بترك النية ولا يجوز أن يصير ناويا للصوم المشروع في هذا الوقت بنية النفل ; لأنه لو أعتقد في المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر ، وعلى هذا لو أطلق النية يجوز ; لأنه ما صار معرضا بهذه النية .

( ولنا ) حديث علي وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما كان يصومان يوم الشك وكانا يقولان ، لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان وإنما كانا يصومان بنية النفل [ ص: 61 ] لإجماعنا على أنه لا يباح صوم يوم الشك بنية الفرض فلولا أن عند التبين يجوز الصوم عن الفرض لم يكن لهذا التحرز منهما معنى ثم هذا صوم عين فيتأدى بمطلق النية كالنفل ومعناه أنه هو المشروع فيه وغيره ليس بمشروع أصلا والمتعين في زمان كالمتعين في مكان فيتناوله اسم الجنس كما يتناوله اسم النوع ومعنى القربة في أصل الصوم يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه ولا يتحقق في الصفة إذ لا اختيار له فيها فلا يتصور منه إبدال هذا الوصف بوصف آخر في هذا الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة ونية النفل ولغو بالاتفاق ; لأن النفل غير مشروع في هذا الوقت والإعراض عن الفرض يكون بنية النفل فإذا لغت نية النفل لم يتحقق الإعراض ، وهو نظير الحج على قوله وبه يبطل قوله أنه لو اعتقد أنه نفل يكفر وعلى هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في المسافر إذا نوى واجبا آخر في رمضان وقع عن فرض رمضان ; لأن وجوب الأداء ثابت في حق المسافر حتى لو أدى جاز وإنما يفارق المقيم في الترخص بالفطر فإذا لم يترخص كان هو والمقيم سواء وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول : يقع صومه عما نوى ; لأنه ما ترك الترخص حين قصد صرف منافعه إلى ما هو الأهم ، وهو ما تقرر دينا في ذمته وهذه الرخصة لدفع الحرج والمشقة عنه فكان من مصالح بدنه وفي هذه النية اعتبار المصلحة أن يصوم ، أو يفطر فصح منه ; ولأن رمضان في حق المسافر كشعبان في حق المقيم على معنى أنه مخير بين أن يصوم أو يفطر فإن نوى المسافر النفل ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية ابن سماعة عنه يقع عن فرض رمضان ; لأنه ترك الترخص وفي رواية الحسن يقع عن النفل ; لأن رمضان في حقه كشعبان في حق غيره .

فأما المريض إذا نوى واجبا آخر فالصحيح أن صومه يقع عن رمضان ; لأن إباحة الفطر له عند العجز عن أداء الصوم فأما عند القدرة هو والصحيح سواء بخلاف المسافر ، وذكر أبو الحسن الكرخي أن الجواب في المريض والمسافر سواء على قول أبي حنيفة ، وهو سهو أو مؤول ومراده مريض يطيق الصوم ويخاف منه زيادة المرض وأما الكلام في وقت النية فلا خلاف في أن أوله من وقت غروب الشمس ; لأن الأصل في العبادات اقتران النية بحال الشروع في الصوم إلا أن وقت الشروع في الصوم وقت مشتبه لا يعرفه إلا من يعرف النجوم وساعات الليل ، وهو مع ذلك وقت نوم وغفلة والمتهجد بالليل يستحب أن ينام سحرا فلدفع الحرج جوز له بنية متقدمة على حالة الشروع ، وإن كان غافلا عنه عند الشروع بأن تجعل [ ص: 62 ] تلك النية كالقائمة حكما فأما النية بعد طلوع الفجر لصوم رمضان تجوز في قول علمائنا رحمهم الله تعالى وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا تجوز وفي الكتاب لفظان أحدهما إذا نوى قبل الزوال والثاني إذا نوى قبل انتصاف النهار ، وهو الأصح فالشرط عندنا وجود النية في أكثر وقت الأداء ليقام مقام الكل ، وإذا نوى قبل الزوال لم يوجد هذا المعنى ; لأن ساعة الزوال نصف النهار من طلوع الشمس ووقت أداء الصوم من طلوع الفجر فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه وسلم { لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل } والعزم عقد القلب على الشيء فإذا لم ينعقد قلبه على الصوم من الليل لا يجزئه والمعنى فيه أن القصد والعزيمة عند أول جزء من العبادة شرط ليكون قربة كالصلاة وسائر العبادات فإذا انعدم ذلك لم يكن ذلك الجزء قربة وما بقي لا يكفي للفريضة ; لأن المستحق عليه صوم يوم كامل بخلاف النفل فإنه غير مقدر شرعا فيمكن أن يجعل صائما من حين نوى مع أن مبنى النفل على المسامحة والفرض على الضيق ألا ترى أن صلاة النفل تجوز قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول بخلاف الفرض .

( ولنا ) حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه { أن الناس أصبحوا يوم الشك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم أعرابي وشهد برؤية الهلال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال : نعم فقال : صلى الله عليه وسلم الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم فصام وأمر الناس بالصيام وأمر مناديا فنادى ألا من كان أكل فلا يأكلن بقية يومه ومن لم يأكل فليصم } وتأويل حديثه أن المراد هو النهي عن تقديم النية على الليل ثم هو عام دخله الخصوص بالاتفاق ، وهو صوم النفل فنحمله على سائر الصيامات بالقياس ، وهو أن هذا يوم صوم فالإمساك في أول النهار يتوقف على أن يصير صوما بالنية قبل الزوال كالنفل ، وهذا ; لأن للصوم ركنا واحدا ، وهو الإمساك من أول النهار إلى آخره فإذا اقترنت النية بأكثره ترجح جانب الوجود على جانب العدم فيجعل كاقتران النية بجميعه ثم اقتران النية بحالة الشروع ليس بشرط في باب الصوم بدليل جواز التقديم فصارت حالة الشروع هنا كحالة البقاء في سائر العبادات ، وإذا جاز نيته متقدمة دفعا للحرج جاز نيته متأخرة عن حالة الشروع بطريق الأولى ; لأنه إن لم تقترن بالشروع هنا فقد اقترنت بالأداء ومعنى الحرج في جنس الصائمين لا يندفع بجواز التقديم ففي الصائمين صبي يبلغ نصف الليل وحائض [ ص: 63 ] تطهر في آخر الليل فلا ينتبه إلا بعد طلوع الفجر وفي أيامه يوم الشك فلا يمكنه أن ينوي الفرض ليلا إذا لم يتبين أنه من رمضان .

وإن نوى الصوم بعد الزوال لم يجزه لانعدام الشرط في أكثر وقت الأداء فيترجح به جانب العدم ثم القرب بسبب الصوم وقع في ترك الغداء كما بينا ووقت الغداء قبل الزوال لا بعده فإذا نوى قبل الزوال كان تاركا للغداء على قصد التقرب ، وإذا نوى بعد الزوال لم يكن تركه الغداء على قصد التقرب فلا يكون صوما وكذلك المسافر إذا نوى قبل الزوال وقد قدم مصره ، أو لم يقدم ولم يكن أكل شيئا جاز صومه عن الفرض عندنا خلافا لزفر رحمه الله تعالى هو يقول إمساك المسافر في أول النهار لم يكن مستحقا لصوم الفرض فلم يتوقف على وجود النية ولم يستند إليه في حقه إلى أول النهار بخلاف المقيم .

( ولنا ) أن المعنى الذي لأجله جوز في حق المقيم إقامة النية في أكثر وقت الأداء مقامها في جميع الوقت وجد في حق المسافر فالمسافر في هذا الوقت أسوة المقيم إنما يفارقه الترخص بالفطر ولم يترخص به ; ولأن العبادة في وقتها مع ضرب نقصان أولى من تفويتها عن وقتها والمسافر والمقيم في هذا سواء وبهذا فارق صوم القضاء فإنه دين في ذمته ، والأيام في حقه سواء فلا يفوته شيء إذا لم نجوزه مع النقصان فلهذا اعتبر صفة الكمال منه

التالي السابق


الخدمات العلمية