الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7169 7170 ص: وقد جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار تنهى عن التمائم ، فمما روي في ذلك ما حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أم قيس بنت محصن ، قالت : " دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن لي وقد أعلقت عليه من العذرة ، ، فقال : علام تدغرين أولادك بهذا العلاق ؟ ؟ عليكن بهذا العود الهندي ; فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب ، ، يسعط من العذرة ، ويلد من ذات الجنب " . .

                                                فقد يحتمل أن يكون ذلك العلاق كان مكروها في نفسه ; لأنه كتب فيه ما لا يحل كتابته ; فكرهه رسول الله -عليه السلام - لذلك لا لغيره .

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر هذا تأييدا للجواب المذكور ; لأنه نظير قضية عمران بن حصين في كون كل منهما فعل قبل نزول البلاء لدفع القدر ، وهذا لا يجوز ، أما قضية عمران فقد

                                                [ ص: 175 ] ذكرناها ، وأما قضية أم قيس بنت محصن فإن معناها أنها أعلقت على ابنها من العذرة قبل نزول البلاء لدفع القدر في نزول البلاء ، فافهم .

                                                ورجال حديثها كلهم رجال الصحيح .

                                                وسفيان هو ابن عيينة ، والزهري محمد بن مسلم ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وأم قيس بنت محصن أخت عكاشة بن محصن ، لها صحبة ، أسلمت قديما وهاجرت إلى المدينة .

                                                وأخرجه الجماعة ، فقال البخاري : ثنا صدقة بن الفضل ، أنا ابن عيينة قال : سمعت الزهري ، عن عبيد الله ، عن أم قيس بنت محصن قالت : سمعت النبي -عليه السلام - يقول : "عليكم بهذا العود الهندي ; فإن فيه سبعة أشفية : يسعط به من العذرة ، ويلد به من ذات الجنب . ودخلت على النبي -عليه السلام - بابن لي لم يأكل الطعام ، فبال عليه فدعا بماء ، فرش عليه " .

                                                وقال أيضا : ثنا علي بن عبد الله ، ثنا سفيان ، عن الزهري ، أخبرني عبيد الله ، عن أم قيس قالت : "دخلت بابن لي على رسول الله -عليه السلام - وقد أعلقت عليه من العذرة ، فقال : على ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق ، عليكن بهذا العود الهندي ; فإن فيه سبعة أشفية منها : ذات الجنب ، يسعط من العذرة ، ويلد من ذات الجنب " .

                                                وقال مسلم : ثنا حرملة بن يحيى ، قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، أن ابن شهاب أخبره ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : "إن أم قيس ابنة محصن كانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن رسول الله -عليه السلام - ، أخت عكاشة بن محصن أحد بني أسد بن خزيمة ، قال : أخبرتني أنها أتت رسول الله -عليه السلام - بابن لها لم يبلغ أن يأكل طعاما ، وقد أعلقت عليه من العذرة -قال

                                                [ ص: 176 ] يونس : أعلقت : غمرت فهي تخاف أن يكون به عذرة - قالت : فقال رسول الله -عليه السلام - : علامه تدغرن أولادكن بهذه الأعلاق ؟ ! عليكم بهذا العود الهندي -يعني به الكست - فإن فيه سبعة أشفية منها : ذات الجنب . . . . "
                                                الحديث .

                                                وقال أبو داود : ثنا مسدد وحامد بن يحيى ، قالا : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن أم قيس . . . . إلى آخره نحوه .

                                                وقال ابن ماجه : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح ، قالا : ثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن أم قيس . . . . إلى آخره نحوه .

                                                والترمذي والنسائي لم يخرجا إلا قضية البول فقط .

                                                قوله : "وقد أعلقت " من الإعلاق وهو معالجة عذرة الصبي وحقيقة ذلك : أعلقت عنه ، أي أزلت العلوق ، وهي الداهية .

                                                قال الخطابي : المحدثون يقولون : أعلقت عليه وإنما هو أعلقت عنه أي دفعت عنه ، ومعنى أعلقت عليه : أوردت عليه العلوق أي ما عذبته به من دغرها .

                                                ومنه قولهم : أعلقت علي : إذا أدخلت يدي في حلقي أتقيأ .

                                                وقال الأصمعي : الإعلاق أن ترفع العذرة باليد .

                                                و"العذرة " -بضم العين - وجع في الحلق يهيج من الدم ، وقيل : هي قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان عند طلوع العذرة ، فتعمد المرأة إلى خرقة فتفتلها فتلا شديدا ، وتدخلها في أنفه ، فتطعن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود ، وربما أقرحه وذلك الطعن يسمى الدغر ، يقال : عذرت المرأة الصبي : إذا غمزت حلقه من العذرة أو فعلت به ذلك ، وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقا كالعوذة ، وقوله : عند طلوع العذرة هي خمسة كواكب تحت الشعرى

                                                [ ص: 177 ] العبور وتسمى العذاري وتطلع في وسط الحر . وفي المحكم : العذرة نجم إذا اطلع اشتد الحر ، والعذرة والعاذور داء في الحلق ، ورجل معذور : أصابه ذلك .

                                                قوله : "من العذرة " أي من أجلها ، وكلمة "من " للتعليل .

                                                قوله : "علام تدغرن أولادكن " أصله : "على ما " حذفت الألف من "ما " ، وكلمة "على " تعليل كما في قوله تعالى : لتكبروا الله على ما هداكم

                                                قوله : "تدغرن " خطاب لجمع المؤنث ; أي على ما تغمزن حلق الصبي بأصابعكن ، والدغر هو غمز حلق الصبي بالأصبع وكبسه ، قال القرطبي : الرواية الصحيحة بالدال المهملة وغين معجمة ، ومعناه رفع اللهاة ، واللهاة هي اللحمة الحمراء التي في آخر الفم وأول الحلق ، وذكره أبو عبيد في باب الدال المهملة مع الغين المعجمة وقال : الدغر : غمز الحلق بالأصبع ; وذلك أن الصبي تأخذه العذرة وهي وجع يهيج في الحلق من الدم ، فتدخل المرأة أصبعها فتدفع بها ذلك الموضع وتكبسه .

                                                قوله : "بهذا العلاق " المعروف الإعلاق ، وهو مصدر أعلقت ، وأما العلاق فهو اسم منه ، وأراد به ها هنا ما يعلق على الصغير من تميمة ، وهي الخرزة التي تعلق على الصغير لدفع عين أو مرض أو نحو ذلك ، أو رقعة مكتوب فيها أشياء من اللسان وغيرها ، فكره رسول الله -عليه السلام - لاحتمال أن يكون كتب فيها ما لا يحل كتابته .

                                                قوله : "عليكن بهذا العود الهندي " وهو القسط البحري ، وقيل : العود الذي يتبخر به . القسط بضم القاف ، قال الجوهري : هو من عقاقير البحر ، وقال ابن السكيت : القاف بدل من الكاف ، وفي "المنتهى " لأبي المعالي : الكست والقسط والكسط ثلاث لغات وهو جزر البحر ، وقال ابن البيطار : أجوده ما كان من بلاد المغرب وكان أبيض خفيفا وهو البحري ، وبعده الذي من بلاد الهند وهو غليظ أسود خفيف مثل القثاء ، وبعده الذي من بلاد سوريا وهو ثقيل ولونه لون البقس

                                                [ ص: 178 ] ورائحته ساطعة ، وأجودها ما كان حديثا أبيض ممتلئا غير متآكل ولا زهم يلدغ اللسان وقوته مسخنة مدرة للبول والطمث ، وينفع من أوجاع الأرحام إذا استعمل ، وشربه ينفع من لدغ الأفعى ويحرك شهوة الجماع ، ويخرج حب القرع ويعمل لطوخا بالزيت لمن به نافض قبل أخذ الحمى ولمن به فالج وينقي الكلف ويقلعه إذا لطخ بماء أو بعسل وينفع من العلة المعروفة بالنسا ، وهو جيد للزكام البارد إذا بخر به الأنف ، ودهنه ينفع العصب والرعشة ، وإذا سحق بالعسل أو الماء نفع من التشنج الذي في الوجه والسعفة ، وإذا سحق وذر على القروح الرطبة خففها وهو يفتح السدد الحادثة في الكبد شربا ، وينشف البلغم الذي في الرأس ، وينفع من ضعف الكبد والغدة وبردهما ، والأبيض فيه منفعة عظيمة من الأوجاع العتيقة التي تكون في الرأس ويطرد الرياح من الدماغ ، وإذا دهن به في قمع قتل الولد وأدر الحيض ، وبخوره نافع من النزلات ومن الوباء الحادث عن التعفن ، وإذا ضمدت به الأوجاع الباردة سكنها وكذلك دهنه ، وإن قطر من دهنه في الأذن سكن أوجاعها الباردة وفتح سددها ، وإذا خلط وعجن بالعسل وشرب نفع من أوجاع المعدة والمغص ومن أوجاع ذات الجنب ، وهو نافع لكل عضو يحتاج أن يسخن ، وينفع من أوجاع الصدر ، ومن النهوش كلها .

                                                قوله : "فإن فيه سبع أشفية " الأشفية : جمع شفاء ، سمى منها رسول الله -عليه السلام - اثنين ووكل باقيها إلى طلب المعرفة أو إلى الشهرة فيها ، وقد عد الأطباء فيها منافع كثيرة وقد ذكرناها الآن .

                                                فإن قلت : إذا كان فيه ما ذكرت من المنافع الكثيرة فما وجه تخصيصه -عليه السلام - منافعه بسبع ؟

                                                قلت : هذه السبع هي التي علمها -عليه السلام - بالوحي وتحققها ، وغيرها من المنافع علمت بالتجربة ، فذكر -عليه السلام - ما علمه بالوحي دون غيره .

                                                أو نقول : بين -عليه السلام - ما دعت الحاجة والضرورة إليه وسكت عن الباقي ; لأنه لم يبعث لبيان تفاصيل الطب ولا لتعليم صنعته ، وإنما تكلم ما تكلم به منه ليرشد إلى

                                                [ ص: 179 ] الأخذ منه والعمل به ، وعين من الأدوية والعقاقير التي ينتفع بها ما دعت حاجتهم إليه في ذلك الوقت وبحسب أولئك الأشخاص .

                                                قوله : "منها ذات الجنب " قال الترمذي : هو السل ، وفي "البارع " : هو الذي يطول مرضه ، وعن النضر : هو الدبيلة ، وهي قرحة تثقب البطن ، وقيل : هي الشوصة .

                                                وفي "المنتهى " : الجناب -بالضم - داء في الجنب ، وأما الأطباء فإنهم يقولون : ذات الجنب : ورم حار يكون إما في الحجاب الحاجز أو في الغشاء المستبطن للصدر وهما خالصان ، وإما في الغشاء المجلل للأضلاع أو العضل الخارج ، وهما غير خالصين .

                                                والخالص يلزمه أعراض خمسة : حمى لازمة ، ووجع ناخس ، وضيق نفس مع صفير وتواتر ونبض منشاري ، وسعال نافث .

                                                وغير الخالص : ربما أدركه حس الطبيب وقد يكون بلا حمى ، وقد يقال لورم الحجاب : برساما ، ولورم العضل الخارج : شوصة .

                                                قوله : "يسعط من العذرة " قال الأزهري : السعوط والنشوق والنسوغ في الأنف ، ولخيته ولخوته وألخيته : إذا سعطته ويقال : أسعطته ، وكذلك وحرته وأوحرته لغتان ، وأما النشوق فيقال : أنشقته إنشاقا وهو طيب السعوط والسعاط والإسعاط ، وفي "المحكم " : سعطه الدواء يسعطه ويسعطه ، والضم أعلى ، والصاد في كل ذلك لغة ، والسعوط اسم الدواء ، والسعيط : المسعط ، والسعيط : دهن الخردل ، والسعيط دهن البان والسعوط من السعط كالنشوق من النشق ، وفي "الصحاح " : اسعطته واستعط هو بنفسه ، وفي "الجامع " : السعوط والمسعط والسعيط : الرجل الذي يفعل به ذلك والسعطة : المرة الواحدة من الفعل ، والإسعاطة مثلها ، قال أبو الفرج : الإسعاط هو تحصيل الدهن أو غيره في أقصى الأنف سواء كان بجذب النفس أو بالتفريغ فيه .

                                                [ ص: 180 ] قوله : "ويلد " من الإلداد ، وقد لد الرجل فهو ملدود وألددته أنا ، واللديدان : جانبا الوادي . قاله الأصمعي ، وفيه ; أحد اللدود ، وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم ، وتجمع على ألدة ، وقال ابن الأثير : لديدا الفم : جانباه ، واللدود -بفتح اللام - من الأدوية : ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم .

                                                ويستنبط منه أحكام :

                                                فيه : جواز التداوي بالأدوية ، وأنه لا ينافي التوكل ; ردا على بعض المتصوفة .

                                                وفيه : كراهة دغر العذرة .

                                                وفيه : بيان فضيلة العود الهندي وأنه ينفع من أدواء كثيرة كما ذكرنا .

                                                وفيه : بيان معالجة العذرة بالإسعاط ، وذات الجنب بالإلداد .

                                                وفيه : جواز التطبب ، والإخبار عن طبائع الأدوية ومنافعها ومضارها عند العلم .

                                                وفيه : أنه -عليه السلام - كان عالما بعلم الطب أيضا وبمنافع الأدوية ; وإن كان مبعوثا بعلم الدين فإنه -عليه السلام - كان كاملا في كل شيء .

                                                وفيه : أن كل منفعة أخبر بها النبي -عليه السلام - من الأدوية فهي كذلك من غير ريب ، بخلاف كلام سائر الأطباء ; فإن كلامهم على الظن والتجربة ، فخطأهم في ذلك أكثر من صوابهم .

                                                وفيه : أن من أنكر ما قاله -عليه السلام - من منفعة دواء من الأدوية أو قال : بخلاف ذلك فقد كفر ; نعوذ بالله من ذلك .




                                                الخدمات العلمية