الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1403 [ 718 ] وعنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح ، فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر .

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 460)، والبخاري (881)، ومسلم (850)، وأبو داود (351)، والترمذي (499)، والنسائي (3 \ 97 - 99)، وابن ماجه (1092) .

                                                                                              [ ص: 484 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 484 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة : يعني في الصفة . والأغسال الشرعية كلها على صفة واحدة وإن اختلفت أسبابها . وهكذا رواية الجمهور ، ووقع عند ابن ماهان : " غسل الجمعة " مكان " غسل الجنابة " . وفي كتاب أبي داود من حديث أوس بن أوس مرفوعا - مشدد السين - : من غسل واغتسل ، وذكر نحو حديث مسلم . وقد روي مخفف السين ، وروايتنا التشديد . واختلف في معناه ، فقيل : معناه : جامع ; يقال : غسل وغسل ; أي : جامع . قالوا : ليكون أغض لبصره في سعيه إلى الجمعة . وقيل في التشديد : أوجب الغسل على غيره ، أو حمله عليه . وقيل : غسل للجنابة ، واغتسل للجمعة ، وقيل : غسل رأسه ، واغتسل في بقية جسده . وقيل : غسل : بالغ في النظافة والدلك ، واغتسل : صب الماء عليه . وأنسب ما في هذه الأقوال : قول من قال : حمل غيره على الغسل بالحث والترغيب والتذكير ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ثم راح . والرواح في أصل اللغة : الرجوع بعشي ، ومنه قول امرئ القيس :

                                                                                              ورحنا كأنا من جواثى عشية نعالي النعاج بين عدل ومحقب



                                                                                              [ ص: 485 ] وأول العشي : زوال الشمس ، وهو أول وقت أمرنا الله فيه بالسعي إلى الجمعة ; لأنه تعالى قد قال : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا [ الجمعة :9 ] وهذا النداء هو الذي يحصل به الإعلام بدخول الوقت ، وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر ، ويؤذن الأذان الثاني ، وفائدته : الإعلام بحضور الخطبة ، وعند هذا الأذان تطوي الملائكة صحف المبكرين ، ويستمعون الذكر ، كما جاء في حديث أبي هريرة ، ولذلك قال العراقيون من أصحابنا : للجمعة أذانان : عند الزوال ، وعند جلوس الإمام على المنبر . وهذه الساعات المذكورة في هذا الحديث هي مراتب أوقات الرائحين إلى الجمعة ، من أول وقت الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر ويؤذن الأذان الثاني ، وليست عبارة عن الساعات التعديلية التي النهار منها : اثنتي عشرة ساعة ، وهذا الذي ذكرناه هو مذهب مالك ، وخالفه في ذلك الشافعي . وأكثر العلماء وابن حبيب من أصحابنا قالوا : هذه الساعات المذكورات في هذا الحديث هي المعروفة عند المعدلين ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في الأفضل : هل البكور إليها من أول ساعات النهار إلى الزوال ؟ أو الأفضل البكور في أول الزوال إلى أن يجلس الإمام على المنبر ؟ واحتج لمالك بثلاثة أوجه :

                                                                                              أحدها : التمسك بلفظ : الرواح ، كما تقدم . ولئن سلم أنه يقال على المشي مطلقا ; فعلى خلاف الأصل ، وهو مجاز . ولا يعارض هذا بما في حديث الآخر من قوله : المهجر إلى الجمعة ، فيقال : إنه من الهاجرة ، وذلك قبل [ ص: 486 ] الزوال ; لأنا لا نسلم أنها تختص بما قبل الزوال ، بل بشدة الحر . فهو صالح لما قبل الزوال وبعده . فبين لفظ الرواح: أن المراد به ما بعد الزوال . ولا يقال : إن حقيقة الساعة العرفية إنما هي المتعارفة عند المعدلين ; لأنا نمنع ذلك ، ونقول : بل الساعة في عرف اللغة : القطعة من الزمان غير محدود بمقدار ; كما قال تعالى : ما لبثوا غير ساعة [ الروم : 55 ] ، وتقول العرب : جئتك ساعة كذا . فتتعين بحسب ما تضاف إليه ، وليست محدودة . والأصل : التمسك بالأصل .

                                                                                              وثانيها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول ، فالأول كالجزور ، ثم نزلهم حتى صغر مثل البيضة . وهذا السياق تفسير الحديث الأول ، فإن الفاء للترتيب وعدم المهلة ، فاقتضى هذا سبقية الأول ، وتعقيب الثاني ، فالأول هو الذي راح في الساعة الأولى ، وهو الذي شبه بمهدي البدنة ، والثاني في الساعة الثانية ، وهو المهدي بقرة ، وبعده المهدي شاة ، وبعده دجاجة ، وبعده بيضة . فهذه الخمس المراتب هي من أول الساعة السابعة إلى أن يجلس الإمام على المنبر ; فهي ساعات الدخول للجمعة ، لا ساعات النهار . والله أعلم .

                                                                                              وثالثها : عمل أهل المدينة المتصل [ وقد جاء في سنن النسائي ما ينص على هذا المعنى ] بترك البكور للجمعة في أول النهار ، وسعيهم إليها قرب خطبتها وصلاتها ، وهو نقل معلوم عندهم غير منكر ، وما كان أهل عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين من بعدهم ممن يترك الأفضل إلى غيره ، ويتمالؤون على العمل بأقل الدرجات .

                                                                                              [ ص: 487 ] ورابعها : إنا لو تنزلنا على أن الساعات في الحديث هي التعديلية ; للزم عليه انقضاء فضائل المبكرين للجمعة بانقضاء الخامسة ، ولا يبقى لأهل السادسة فضل ، فيلزم طي الصحف إذ ذاك ، وهو خلاف الحديث . وبيان ذلك : أن البدنة لأهل الساعة الأولى إلى أن تنقضي ، والبقرة لأهل الساعة الثانية إلى انقضائها ، والشاة لأهل الثالثة إلى انقضائها ، والدجاجة لأهل الرابعة ، والبيضة لأهل الخامسة ، وقد فرغت ساعات البكور ، ولم يبق لأهل السادسة ثواب في سعيهم ، وهذا مناقض للحديث الذي ذكرناه ولمعناه ; فإنه أخبر فيه : أن أجورهم لا تزال تكتب إلى أن يخرج الإمام ، وهو إنما يخرج في السابعة ، وحينئذ تطوي الملائكة الصحف ، وتستمع الذكر ، فلا تكتب للداخل إذ ذاك ثواب البكور ; إذ قد فرغت مراتب ثواب المبكرين . والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية