الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فصل

[ من أسباب سقوط الحد عام المجاعة ]

المثال الثالث : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة ، قال السعدي : حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني حسان بن زاهر أن ابن حدير حدثه عن عمر قال : لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة .

قال السعدي : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال : العذق النخلة ، وعام سنة : المجاعة ، فقلت لأحمد : تقول به ؟ فقال : إي لعمري ، قلت : إن سرق في مجاعة لا تقطعه ؟ فقال : لا ، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة .

قال السعدي : وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب ، ثنا أبو النعمان عارم ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن حاطب أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر ، فأقروا ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له : إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم ، فقال عمر : يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم ، فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال : أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم ، وايم الله إذا لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ، ثم قال : يا مزني بكم أريدت منك ناقتك ؟ قال : بأربع مائة ، قال عمر : اذهب فأعطه ثماني مائة .

وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا ; في مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها السعدي بكتاب سماه المترجم ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يحمل الثمر من أكمامه ، فقال : فيه الثمن مرتين وشرب نكال ، وقال : وكل من درأنا عنه الحد والقود أضعفنا عليه الغرم ، وقد وافق أحمد على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعي ، وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الشرع ; فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة ، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما [ ص: 18 ] يسد به رمقه ، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له ، إما بالثمن أو مجانا ، على الخلاف في ذلك ; والصحيح وجوب بذله مجانا ; لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج ، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج ، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء ، بل إذا وازنت بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت ، فأين شبهة كون المسروق مما يسرع إليه الفساد ، وكون أصله على الإباحة كالماء ، وشبهة القطع به مرة ، وشبهة دعوى ملكه بلا بينة ، وشبهة إتلافه في الحرز بأكل أو احتلاب من الضرع ، وشبهة نقصان ماليته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه ، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدا إلى هذه الشبهة القوية ؟ لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه .

وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره ، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه ، فدرئ . نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية