الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        3450 حدثني إسحاق حدثنا النضر أخبرنا شعبة عن أبي جمرة سمعت زهدم بن مضرب سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن [ ص: 8 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 8 ] قوله : ( حدثنا إسحاق ) هو ابن راهويه وبذلك جزم ابن السكن وأبو نعيم في " المستخرج " والنضر هو ابن شميل ، وأبو جمرة بالجيم والراء صاحب ابن عباس وحدث هنا عن تابعي مثله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( خير أمتي قرني ) أي أهل قرني ، والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ، ويقال : إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل ، ويطلق القرن على مدة من الزمان ، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة ، وما عدا ذلك فقد قال به قائل . وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين ، وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور ، وقال صاحب المطالع : القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد ، وثبتت المائة في حديث عبد الله بن بسر وهي ما عند أكثر أهل العراق ، ولم يذكر صاحب " المحكم " الخمسين وذكر من عشر إلى سبعين ثم قال : هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن ، وهذا أعدل الأقوال وبه صرح ابن الأعرابي وقال : إنه مأخوذ من الأقران ، ويمكن أن يحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدمة ممن قال إن القرن أربعون فصاعدا ، أما من قال إنه دون ذلك فلا يلتئم على هذا القول والله أعلم . والمراد بقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحابة .

                                                                                                                                                                                                        وقد سبق في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : وبعثت في خير قرون بني آدم وفي رواية بريدة عند أحمد خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل ، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين ، وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين ، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوا من خمسين ، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان والله أعلم . واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رءوسها ، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن ، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا ، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن . وظهر قوله - صلى الله عليه وسلم - ثم يفشو الكذب ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم الذين يلونهم ) أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون ( ثم الذين يلونهم ) وهم أتباع التابعين

                                                                                                                                                                                                        ، واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد ؟ محل بحث ، وإلى الثاني نحا الجمهور ، والأول قول ابن عبد البر ، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمانه بأمره أو أنفق شيئا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان ، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث ، والأصل في ذلك قوله تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا الآية . واحتج ابن عبد البر بحديث مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة ، وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف ، مع أنه [ ص: 9 ] عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث أنس ، وصححه ابن حبان من حديث عمار ، وأجاب عنه النووي بما حاصله : أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر ، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير ، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله - صلى الله عليه وسلم - : خير القرون قرني والله أعلم . وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثا - ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها .

                                                                                                                                                                                                        وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين ، قيل : منهم أو منا يا رسول الله ؟ قال : بل منكم وهو شاهد لحديث مثل أمتي مثل المطر ، واحتج ابن عبد البر أيضا بحديث عمر رفعه أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني الحديث ، أخرجه الطيالسي وغيره ، لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه .

                                                                                                                                                                                                        وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال : قال أبو عبيدة : يا رسول الله ، أأحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك . قال : قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يرونيوإسناده حسن وقد صححه الحاكم . واحتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم ، قال : فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء ، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك . ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة ، وبذلك صرح القرطبي ، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة ، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية . نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده ، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده ، فظهر فضلهم . .

                                                                                                                                                                                                        ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم ، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها ، على أن حديث للعامل منهم أجر خمسين منكم لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة ، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة ، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد ، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة ، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه ، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم ، ورواه بعضهم بلفظ قلنا : يا رسول الله ، هل من قوم أعظم منا أجرا ؟ الحديث ، أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة ، وهي توافق حديث أبي ثعلبة ، وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ) وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم ، وفي حديث بريدة عند أحمد ، وجاء في أكثر الطرق بغير شك ، منها عن النعمان بن بشير عند أحمد ، [ ص: 10 ] وعن مالك عند مسلم عن عائشة قال رجل : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : القرن الذي أنا فيه ، ثم الثاني ، ثم الثالث ووقع في رواية الطبراني وسمويه ما يفسر به هذا السؤال ، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس خير ؟ فقال : أنا وقرني فذكر مثله . وللطيالسي من حديث عمر رفعه خير أمتي القرن الذي أنا منهم ، ثم الثاني ، ثم الثالث ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الآخرون أردأ ورجاله ثقات ، إلا أن جعدة مختلف في صحبته والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم إن بعدهم [1] قوما ) كذا للأكثر ، ولبعضهم " قوم " فيحتمل أن يكون من الناسخ على طريقة من لا يكتب الألف في المنصوب ، ويحتمل أن تكون " إن " تقريرية بمعنى نعم وفيه بعد وتكلف . واستدل بهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل ، وهذا محمول على الغالب والأكثرية ، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة لكن بقلة ، بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك كثر فيهم واشتهر ، وفيه بيان من ترد شهادتهم وهم من اتصف بالصفات المذكورة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : ثم يفشو الكذب أي يكثر . واستدل به على جواز المفاضلة بين الصحابة قاله المازري ، وقد تقدم باقي شرحه في الشهادات .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية