الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم

[ ص: 66 ] لما ذكر ثواب القوم الذين يتذكرون بالآيات ، وهو ثواب دار السلام ، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الذين لا يتذكرون ، وهو جزاء الآخرة أيضا ، فجملة ويوم يحشرهم إلخ معطوفة على جملة لهم دار السلام عند ربهم والمعنى : وللآخرين النار مثواهم خالدين فيها ، وقد صور هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر ، ثم أفضى إلى غاية ذلك الحساب ، وهو خلودهم في النار .

وانتصب ( يوم ) على المفعول به لفعل محذوف تقديره : اذكر ؛ على طريقة نظائره في القرآن ، أو انتصب على الظرفية لفعل القول المقدر .

والضمير المنصوب بـ نحشرهم عائد إلى الذين أجرموا المذكور في قوله : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله أو إلى الذين لا يؤمنون في قوله : كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهؤلاء هم مقابل الذين يتذكرون ، فإن جماعة المسلمين يعتبرون مخاطبين ؛ لأنهم فريق واحد مع الرسول عليه الصلاة والسلام ويعتبر المشركون فريقا مبائنا لهم بعيدا عنهم بضمير الغيبة ، فالمراد المشركون الذين ماتوا على الشرك وأكد بـ ( جميعا ) ليعم كل المشركين وسادتهم وشياطينهم وسائر علقهم ، ويجوز أن يعود الضمير إلى الشياطين وأوليائهم في قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم إلخ .

وقرأ الجمهور : ( نحشرهم ) بنون العظمة على الالتفات ، وقرأه حفص عن عاصم ، وروح عن يعقوب بياء الغيبة .

ولما أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعين أن النداء في قوله : يا معشر الجن من قبل الله تعالى ، فتعين لذلك إضمار قول صادر من المتكلم ؛ أي : نقول : يا معشر الجن ؛ لأن النداء لا يكون إلا قولا .

[ ص: 67 ] وجملة يا معشر الجن إلخ مقول قول محذوف يدل عليه أسلوب الكلام ، والتقدير : نقول أو قائلين .

والمعشر : الجماعة الذين أمرهم وشأنهم واحد ، بحيث تجمعهم صفة أو عمل ، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وهو يجمع على معاشر أيضا وهو بمعناه ، وهو مشتق من المعاشرة والمخالطة .

والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبين الصفة التي اجتمع مسماه فيها ، وهي هنا صفة كونهم جنا ، ولذلك إذا عطف على ما يضاف إليه كان على تقدير تثنية معشرا وجمعه ، فالتثنية نحو : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا الآية ؛ أي : يا معشر الجن ويا معشر الإنس ، والجمع نحو قولك : يا معاشر العرب والعجم والبربر .

والجن تقدم في قوله : وجعلوا لله شركاء الجن في هذه السورة ، والمراد بالجن الشياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجن ، والإنس تقدم عند قوله : شياطين الإنس والجن في هذه السورة .

والاستكثار : شدة الإكثار ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل الاستلام والاستخداع والاستكبار ، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتخذ كثيره ، يقال : استكثر من النعم أو من المال ؛ أي : أكثر من جمعها ، واستكثر الأمير من الجند ، ولا يتعدى بنفسه ، تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الذي بمعنى عد الشيء كثيرا ، كقوله : ولا تمنن تستكثر .

وقوله : استكثرتم من الإنس على حذف مضاف ، وتقديره : من إضلال الإنس ، أو من إغوائهم ، فمعنى استكثرتم من الإنس أكثرتم من اتخاذهم ؛ أي : من جعلهم أتباعا لكم ؛ أي : تجاوزتم الحد في استهوائهم واستغوائهم ، فطوعتم منهم كثيرا جدا .

[ ص: 68 ] والكلام توبيخ للجن وإنكار ؛ أي : كان أكثر الإنس طوعا لكم ، والجن يشمل الشياطين ، وهم يغوون الناس ويطوعونهم ؛ بالوسوسة والتخييل والإرهاب والمس ونحو ذلك ، حتى توهم الناس مقدرتهم وأنهم محتاجون إليهم ، فتوسلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شئونهم ، حتى أصبح المسافر إذا نزل واديا قال : أعوذ بسيد هذا الوادي ، أو برب هذا الوادي ، يعني به كبير الجن ، أو قال : يا رب الوادي إني أستجير بك يعني سيد الجن ، وكان العرب يعتقدون أن الفيافي والأودية المتسعة بين الجبال معمورة بالجن ، ويتخيلون أصوات الرياح زجل الجن ، قال الأعشى :


وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل



وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الذين اتبعوهم وأطاعوهم وأفرطوا في مرضاتهم ، ولم يسمعوا من يدعوهم إلى نبذ متابعتهم ، كما يدل عليه قوله الآتي : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم فإنه تدرج في التوبيخ وقطع المعذرة .

والمراد بأوليائهم أولياء الجن ؛ أي : الموالون لهم ، والمنقطعون إلى التعلق بأحوالهم ، وأولياء الشياطين هم المشركون الذين وافوا المحشر على الشرك ، وقيل : أريد به الكفار والعصاة من المسلمين ، وهذا باطل ؛ لأن العاصي وإن كان قد أطاع الشياطين فليس وليا لها الله ولي الذين آمنوا ولأن الله تعالى قال في آخر الآية : ألم يأتكم رسل منكم ، وقال : وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .

و من الإنس بيان للأولياء .

وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس ؛ لأن الناس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية .

[ ص: 69 ] ومعنى : استمتع بعضنا ببعض انتفع وحصل شهوته وملائمه ؛ أي : استمتع الجن بالإنس ، وانتفع الإنس بالجن ، فكل بعض مراد به أحد الفريقين ؛ لأنه بعض مجموع الفريقين ، وإنما قالوا : استمتع بعضنا ببعض ، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتوبيخ ؛ لأنهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجن ودفع التوبيخ عنهم ، بأن الجن لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس ، بل نال كل من الفريقين انتفاعا بصاحبه ، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنهم أرادوا مشاطرة الجناية إقرارا بالحق ، وإخلاصا لأوليائهم ، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجن المغوين يعرض بتوبيخ المغوين - بفتح الواو - فأقروا واعتذروا بأن ما فعلوه لم يكن تمردا على الله ، ولا استخفافا بأمره ، ولكنه كان لإرضاء الشهوات من الجانبين ، وهي المراد بالاستمتاع .

ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء ، وكون كلامهم دخيلا في المخاطبة ، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جمل المحاورة في السؤال والجواب ، بل عطفت على جملة القول المقدر ؛ لأنها قول آخر عرض في ذلك اليوم .

وجيء في حكاية قولهم بفعل وقال أولياؤهم مع أنه مستقبل من أجل قوله : نحشرهم تنبيها على تحقيق وقوعه ، فيعلم من ذلك التنبيه على تحقيق الخبر كله وأنه واقع لا محالة ؛ إذ لا يكون بعضه محققا وبعضه دون ذلك .

واستمتاع الإنس بالجن هو انتفاعهم في العاجل بتيسير شهواتهم ، وفتح أبواب اللذات والأهواء لهم ، وسلامتهم من بطشتهم ، واستمتاع الجن بالإنس هو انتفاع الجن بتكثير أتباعهم من أهل الضلالة ، وإعانتهم على إضلال الناس ، والوقوف في وجه دعاة الخير ، وقطع سبيل الصلاح ، فكل من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه مما فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره .

[ ص: 70 ] وقوله : وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا استسلام لله ؛ أي : انقضى زمن الإمهال ، وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا للوقوع في قبضتك ، فسدت الآن المسالك فلا نجد مفرا ، وفي الكلام تحسر وندامة عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئا ، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوهم ، ومحين حين أن يلقوا جزاء أعمالهم كقوله : ووجد الله عنده فوفاه حسابه

وقد أفادت الآية أن الجن المخاطبين قد أفحموا ، فلم يجدوا جوابا ، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم ، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذ إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا

وجملة قال النار مثواكم فصلت عن التي قبلها على طريقة القول في المحاورة ، كما تقدم عند قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة

وضمير الخطاب في قوله : النار مثواكم موجه إلى الإنس فإنهم المقصود من الآية ، كما في قوله - تعالى بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وقوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

ومجيء القول بصيغة الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله : نحشرهم كما تقدم . وإسناده إلى الغائب نظر لما وقع في كلام الأولياء ربنا استمتع إلخ

والمثوى : اسم مكان من ثوى بالمكان ، إذا أقام به إقامة سكنى أو إطالة مكث ، وقد بين الثواء بالخلود بقوله : خالدين فيها

وقوله : خالدين فيها هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة ؛ لأنه منصوب على الحال من ضمير مثواكم ، فلا بد أن يتعلق بما قبله .

[ ص: 71 ] وأما قوله : إلا ما شاء الله فظاهر النظم أنه من تمام ما يقال لهم ؛ لأن الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجنا مما قبله من الكلام .

ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وقع اعتراضا بين ما قصه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر ، وبين قوله له : إن ربك حكيم عليم ويكون الوقف على قوله : خالدين فيها .

والاستثناء في قوله : إلا ما شاء الله على التأويلين استثناء إما من عموم الأزمنة التي دل عليها قوله : خالدين فيها إذ الخلود هو إقامة الأبد ، والأبد يعم الأزمان كلها ، فـ ( ما ) ظرفية مصدرية ، فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مصدر ؛ أي : إلا وقت مشيئة الله إزالة خلودكم ، وإما من عموم الخالدين الذي في ضمير خالدين ؛ أي : إلا فريقا شاء الله أن لا يخلدوا في النار .

وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسرين ، من حيث ما تقرر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة أن المشركين لا يغفر لهم وأنهم مخلدون في النار بدون استثناء فريق ولا زمان .

وقد أحصيت لهم عشرة تأويلات ، بعضها لا يتم ، وبعضها بعيد إذا جعل قوله : إلا ما شاء الله من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر ، ولا يستقيم منها إلا واحد ، إذا جعل الاستثناء معترضا بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النبيء صلى الله عليه وسلم ، فيكون هذا الاعتراض خطابا للمشركين الأحياء الذين يسمعون التهديد ؛ إعذارا لهم أن يسلموا ، فتكون ( ما ) مصدرية غير ظرفية ؛ أي : إلا مشيئة الله عدم خلودهم ؛ أي : حال مشيئته ، وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم ، ويكون هذا بيانا وتحقيقا للمنقول عن ابن عباس : استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ، وعنه أيضا : هذه الآية توجب الوقف في جميع [ ص: 72 ] الكفار ، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه باجتماع أهل العلم على أن المشركين لا يغفر لهم .

ولك أن تجعل ( ما ) على هذا الوجه موصولة ، فإنها قد تستعمل للعاقل بكثرة ، وإذا جعل قوله : ( خالدين ) من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية أن الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولا حالة ، وإنما هو كناية يقصد منه أن هذا الخلود قدره الله تعالى ، مختارا لا مكره له عليه ، إظهارا لتمام القدرة ومحض الإرادة ، كأنه يقول : لو شئت لأبطلت ذلك .

وقد يعضد هذا بأن الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنة في قوله : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فانظر كيف عقب قوله : إلا ما شاء ربك في عقاب أهل الشقاوة بقوله : إن ربك فعال لما يريد وكيف عقب قوله : إلا ما شاء ربك في نعيم أهل السعادة بقوله : عطاء غير مجذوذ فأبطل ظاهر الاستثناء بقوله : عطاء غير مجذوذ فهذا معنى الكناية بالاستثناء ثم المصير بعد ذلك إلى الأدلة الدالة على أن خلود المشركين غير مخصوص بزمن ولا بحال .

ويكون هذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .

وقوله : إن ربك حكيم عليم تذييل ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله : خالدين فيها إلا ما شاء الله من بقية المقول لأولياء الجن في الحشر كان قوله : إن ربك حكيم عليم جملة معترضة بين الجمل المقولة ، لبيان أن ما رتبه الله على الشرك من الخلود رتبه بحكمته وعلمه ، وإن كان قوله : ( خالدين ) إلخ ، كلاما مستقلا معترضا كان قوله : إن ربك حكيم عليم تذييلا للاعتراض ، وتأكيدا للمقصود [ ص: 73 ] من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطا بالموافاة على الشرك ، وجعل النجاة من ذلك منوطة بالإيمان .

والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مناسباتها ، والأسباب لمسبباتها ، والعليم الذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقة للثواب والعقاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية