الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( آيات وأحاديث الصفات ) اعلم أن ما تلقيناه في كتب العقائد التي تقرأ للمبتدئين من طلاب العلم في ديارمصر والشام كالجوهرة والسنوسية الصغرى وما كتب عليهما من شروح وحواش هو أن للمسلمين في الآيات والأحاديث المتشابهات في الصفات مذهبين : مذهب السلف وهو الإيمان بظاهرها مع تنزيه الله - تعالى - عما يوهمه ذلك الظاهر وتفويض الأمر فيه إلى الله - تعالى - ، ومذهب الخلف وهو تأويل ما ورد من النصوص في ذلك بحمله على المجاز أو الكتابة ليتفق النقل مع العقل . وقالوا : إن مذهب السلف أسلم لجواز أن يكون ما حمل عليه اللفظ المتشابه غير مراد الله - تعالى - ، ومذهب الخلف أعلم لأنه يفسر النصوص جميعها ويحمل بعضها على بعض ، فلا يكون صاحبه مضطربا في شيء من دينه . وقالوا : إن الخلاف في التأويل والتفويض مبني على الخلاف في قوله - تعالى - : والراسخون في العلم هل هو معطوف على ما قبله [ ص: 163 ] أم الواو للاستئناف والراسخون مبتدأ خبره يقولون آمنا به إلخ هذا ملخص ما يلقن الطلاب في هذا العصر ، كتبناه من غير مراجعة لهذه الكتب القاصرة التي اعتمد عليها بعض الدارسين فليراجعها من شاء في حاشية الجوهرة للباجوري عند قول المتن :


                          وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها



                          وكنا نظن في أوائل الطلب أن مذهب السلف ضعيف وأنهم لم يأولوا كما أول الخلف لأنهم لم يبلغوا مبلغهم من العلم والفهم لا سيما الحنابلة كلهم أو بعضهم . ولما تغلغلنا في علم الكلام وظفرنا بعد النظر في الكتب التي هي منتهى فلسفة الأشاعرة في الكلام بالكتب التي تبين مذهب السلف حق البيان لا سيما كتب ابن تيمية علمنا علم اليقين أن مذهب السلف هو الحق الذي ليس وراءه غاية ولا مطلب وأن كل ما خالفه فهو ظنون وأوهام لا تغني من الحق شيئا .

                          وذهب بعض العلماء إلى مذهب بين المذهبين ، ففرق بين النص المتشابه الذي إذا صرف عن ظاهره يتعين فيه معنى واحد من المجاز وبين ما يحتمل أكثر من معنى ، فأوجب تأويل الأول دون الثاني . والمشهور أن الناس قسمان : مثبتون للصفات ونافون لها ، وأكثر المحدثين وأهل الأثر مثبتون مفوضون ، وأكثر المتكلمين نفاة مؤولون . قال السعد التفتازاني في مبحث الصفات المختلف فيها من شرح المقاصد : " ومنها ما ورد به ظاهر الشرع وامتنع حملها على معانيها الحقيقية مثل الاستواء في قوله - تعالى - : الرحمن على العرش استوى [ 20 : 5 ] واليد في قوله - تعالى - : يد الله فوق أيديهم [ 48 : 10 ] ، ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 : 75 ] والوجه في قوله - تعالى - : ويبقى وجه ربك [ 55 : 27 ] والعين في قوله : ولتصنع على عيني [ 20 : 39 ] ، و تجري بأعيننا [ 54 : 14 ] فعن الشيخ أن كلا منها صفة زائدة ، وعن الجمهور وهو أحد قولي الشيخ أنها مجازات ، فالاستواء مجاز عن الاستيلاء أو تمثيل وتصوير لعظمة الله - تعالى - ، واليد مجاز عن القدرة ، والوجه عن الوجود ، والعين عن البصر . فإن قيل : جملة المكونات مخلوقة بقدرة الله - تعالى - فما وجه تخصيص خلق آدم - صلى الله عليه وسلم - سيما بلفظ المثنى ؟ وما وجه الجمع في قوله : بأعيننا ؟ أجيب بأنه أريد كمال القدرة وتخصيص آدم تشريف له وتكريم . ومعنى تجري بأعيننا أنها تجري بالمكان المحيط بالكلاءة والحفظ والرعاية ، يقال : فلان بمرأى من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته ، وقيل : المراد الأعين التي انفجرت من الأرض وهو بعيد . وفي كلام المحققين من علماء البيان أن قولنا الاستواء مجاز عن الاستيلاء ، واليد واليمين عن القدرة ، والعين عن البصر ونحو ذلك ، إنما هو لنفي وهم التشبيه والتجسيم بسرعة وإلا فهي تمثيلات وتصويرات للمعاني العقلية بإبرازها في الصور الحسية وقد بينا ذلك في شرح التلخيص " اهـ . كلام السعد ونحوه في المواقف وشرحه .

                          [ ص: 164 ] ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث أعضاء وحركات أعضاء الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة ، فالسلف يجرونها على ظاهرها مع تنزيه الله - تعالى - عن انفعالات المخلوقين ، فيقولون : إن لله - تعالى - محبة تليق بشأنه ليست انفعالا نفسيا كمحبة الناس . والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك فيرجعونه إلى القدرة أو إلى الإرادة فيقولون : الرحمة هي الإحسان بالفعل أو إرادة الإحسان . ومنهم من لا يسمي هذا تأويلا بل يقولون : إن الرحمة تدل على الانفعال الذي هو رقة القلب المخصوصة على الفعل الذي يترتب على ذلك الانفعال ، وقالوا : إن هذه الألفاظ إذا أطلقت على البارئ - تعالى - يراد بها غايتها التي هي أفعال دون مباديها التي هي انفعالات .

                          وإنما يردون هذه الصفات إلى القدرة والإرادة بناء على أن إطلاق لفظ القدرة والإرادة وكذا العلم على صفات الله إطلاق حقيقي لا مجازي ، والحق أن الجميع ما أطلق على الله - تعالى - فهو منقول مما أطلق على البشر ، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله - تعالى - عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول : إن لله - تعالى - قدرة حقيقة ولكنها ليست كقدرة البشر ، وإن له رحمة ليست كرحمة البشر ، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه - تعالى - جمعا بين النصوص ، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي وإطلاق البعض الآخر مجازي ، فكما أن القدرة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يجهل أثره كذلك الرحمة شأن من شئونه لا يعرف كنهه ولا يخفى أثره ، وهذا هو مذهب السلف فهم لا يقولون إن هذه الألفاظ لا يفهم لها معنى بالمرة ، ولا يقولون إنها على ظاهرها ، بمعنى أن رحمة الله كرحمة الإنسان ويده كيده ، وإن ظن ذلك في الحنابلة بعض الجاهلين ، ومحققو الصوفية لا يفرقون بين صفات الله - تعالى - ، ولا يجعلون بعضها محكما إطلاق اللفظ عليه حقيقي ، وبعضها متشابها إطلاقه عليه مجازي ، بل كل ما أطلق عليه - تعالى - فهو مجاز .

                          قال الإمام أبو حامد الغزالي في بيان معنى محبة الله للعبد من الإحياء بعد كلام : " وقد ذكرنا أن محبة الله - تعالى - حقيقة وليست بمجاز ; إذا المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق ، والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط ، وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس ، والجمال موافق أيضا ، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر ، وتارة يدرك بالبصيرة ، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يخص بالبصر ، فأما حب الله للعبد فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلا ، حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكا لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد ، بل كل ما سوى الله - تعالى - فوجوده مستفاد من وجود الله [ ص: 165 ] - تعالى - ، فالوجود التابع لا يكون مساويا للوجود المتبوع ، وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظير اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابه فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلا . فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر ، وليس كذلك اسم الوجود له ولخلقه ، وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها ، فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق ، فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل " اهـ . ما نريده . ثم فسر محبة الله للعبد بكلام طويل فيه مجال للبحث والنظر .

                          وقال في كتاب الشكر من الإحياء : " إن لله - عز وجل - في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع ، وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها ، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد فهمهم إلى مبادئ إشراقها ، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش ، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله - تعالى - صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع .

                          " ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات ، ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة " المشيئة " فهي توهم منها أمرا مجملا عند المتناطقين باللغات التي هي حروف وأصوات للمتفاهمين بها ، وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كقصور لفظ القدرة .

                          " ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية ، وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات ، فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة " المحبة " واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة " الكراهة " . وقيل : إنهما داخلان في وصف المشيئة ، ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات " اهـ . المراد .

                          ثم ذكر نحو ذلك في الرضا والغضب والكفر والشكر وبين أن المرضي عنه من كان في عمله متمما لحكمة الله - تعالى - في عباده ; أي بالقيام بسنته الكونية والشرعية . وهو الشاكر [ ص: 166 ] لله أو الشكور ، والمغضوب عليه ضده وهو الكافر أو الكفور ، وليس في هذا البيان العجيب من منازع المتكلمين إلا جعل المحبة والكرامة والرضا والكراهة داخلة في وصف المشيئة على تردد في ذلك ، والأشبه بمذهب السلف أن يقال إنها شئون خاصة لله - تعالى - ظهر أثرها في خلقه بما ذكر .

                          وقال في كتابه المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى : " وكأنا إذا عرفنا أن الله - تعالى - حي قادر عالم فلم نعرف أولا إلا أنفسنا . ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور معنى قولنا إن الله سميع والأكمه لا يعرف معنى قولنا إنه بصير ، وكذلك إذ قال القائل : كيف يكون الله - تعالى - عالما بالأشياء ؟ فنقول له : كما تعلم أنت أشياء . فإذا قال كيف يكون قادرا ؟ فنقول : كما تقدر أنت ، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه ، فيعلم أولا ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمناسبة إليه ، فإذا كان لله وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه ولو في الاسم لم يتصور فهمه ألبتة فما عرف أحد إلا نفسه . ثم قايس بين صفات الله - تعالى - وبين صفات نفسه وتتعالى صفات الله - تعالى - وتتقدس عن أن تشبه صفاتنا " اهـ .

                          فحاصل ما تقدم أن جميع ما أطلق على الله - تعالى - من الأسماء والصفات هو مما أطلق قبل ذلك على الخلق ; إذ لو وضع لصفات الله - تعالى - ألفاظ خاصة وخوطب بها الناس لما فهموا منها شيئا قال - تعالى - : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 14 : 4 ] وقد جاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بما دل عليه العقل من تنزيهه - تعالى - عن صفات المخلوقين وكونه لا يماثل شيئا ولا يماثله شيء . فعلم أن جميع ما أطلقوه عليه من الألفاظ الدالة على الصفات كالقدرة والرحمة ، وعلى الأفعال والحركات كالخلق والرزق والاستواء على العرش ، وعلى الإضافة ككونه فوق عباده لا ينافي أصل التنزيه ، بل يجب الإيمان بها وبما تدل عليه مع التنزيه فنقول : إن له قدرة ليست كقدرتنا ورحمة ليست كرحمتنا وخلقا ليس كخلقنا .

                          فإن الخلق في اللغة التقدير المعروف من الناس للأشياء وهو - تعالى - أحسن الخالقين ، لا يخلق كخلقه أحد كما قال : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 : 16 ] . وليس استواؤه على عرشه كاستواء الملوك على عروشهم ، كما أن عرشه ليس كعروشهم ، ولا علوه على خلقه كعلو بعض الأجسام على بعض ، كما أنه - تعالى - ليس جسما مماثلا لهم . والسلف والخلف أو الأثريون والمتكلمون كلهم متفقون على تنزيه الله - تعالى - عن مماثلة خلقه وعلى أن جميع ما جاء على ألسنة الرسل في وصفه - تعالى - والحكاية عنه خلق إلا أن المتكلمين يقولون : إن العقل دل على أن لهذا العالم خالقا عالما مريدا قادرا ، فهذه الصفات ثابتة له عقلا ، وعليها مدار إثبات الألوهية بالبرهان ، لأن جميع الكائنات دالة عليها . فما يرد من الصفات السمعية يجب إرجاعه إليها ولا نعده [ ص: 167 ] صفة زائدة . والسلف الأثريون يقولون : لا نفرق بين صفات الله - تعالى - الذي أثبتها لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله . وإنما هذا خلاف في التنزيه وفي كون كل ما جاء عن الله في ذلك حق ، ولولا أن المسلمين انقسموا إلى مذاهب عنى أهل كل مذهب منها بإثبات مذهبهم وتأييده وإبطال مخالفه وتفنيده لزال هذا الخلاف وعرف الأكثرون الحق صورة ومعنى حتى لا يشنع أشعري على حنبلي ولا أثري على نظري ; ولذلك ترى محققي المتكلمين رجعوا في آخر عهدهم إلى مذهب السلف . وبذلك صرح الشيخ أبو الحسن الأشعري في ( الإبانة ) وأبو حامد الغزالي في ( إلجام العوام عن علم الكلام ) وغيره من كتبه التي ألفها في آخر حياته .

                          هذا ولا ننكر أن الأثريين من الحنابلة وغيرهم قد وقع لبعضهم ما يكاد يكون نصا في التجسيم ، أو جعل كل ما ورد في صفات الله وأفعاله صفات لا تفهم وإنما تؤخذ بالتسليم ، وإنما العبرة بما كتبه علماؤهم المحققون كابن تيمية وابن القيم ، وقد قال ابن تيمية : إن خطأ المتكلمين في نفي الصفات أكثر وخطأ الأثريين في الإثبات أكثر . أقول : ومن عجيب صنع بعضهم أنهم ذكروا السمع والبصر والكلام وعدوها من الصفات التي عليها مدار الإيمان بالألوهية على أنهم سموها صفات سمعية ، ولم يذكروا الحكمة والرحمة والمحبة مع أن السمع ورد بها والدلائل العقلية عليها أظهر ، إذ العقل يجيز أن يقال : إن صفة العلم الإلهي محيطة بالمسموعات والمبصرات ، وبذلك يسمى سميعا بصيرا ، ولا حاجة إلى القول بأن السمع والبصر صفتان زائدتان من صفات الألوهية ، ولا يظهر مثل هذا القول في إدراج الحكمة والرحمة والمحبة ونحوها في صفتي الإرادة والقدرة .

                          وإنني أنقل في هذا المقام جملة من كلام أهل الأثر وتابعي السلف في معنى ما تقدم من عدم التفرقة بين صفات الله - تعالى - ليعلم الجامدون على ما في كتب الكلام والتفسير التي ألفها الأشاعرة أنهم كتبوا بعقل ، وهم أجود الناس فهما للنقل ، جاء في شرح عقيدة السفاريني الحنبلي في هذا المبحث ما نصه :

                          " قال شيخ الإسلام في التدمرية : القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله - تعالى - حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة ، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته - تعالى - ورضاه وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ، قيل له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر . فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه ، وهذا هو التمثيل . وإن قلت : له [ ص: 168 ] إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به . قيل ذلك : وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به ، وله - تعالى - رضا وغضب يليقان به كما للمخلوق رضا وغضب يليقان به ، فإن قال : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، قيل له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة . فإن قلت : هذه إرادة المخلوق . قيل لك : وهذا غضب المخلوق .

                          وكذلك يلزم بالقول في علمه وسمعه وبصره وقدرته ونحو ذلك ، فهذا الفرق بين بعض الصفات وبعض ما يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته . فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل لأن الفعل دل على القدرة ، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم وهذه الصفات مستلزمة للحياة ، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ، قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان :

                          ( أحدهما ) أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين ، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه ، وليس لك أن تنفيه من غير دليل لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي . فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم .

                          ( الثاني ) أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ، فيقال : نفع العباد بالإحسان إليهم وما يوجد في المخلوقات من المنافع للمحتاجين وكشف الضر عن المضرورين ، وأنواع الرزق والهدى والمسرات دليل على رحمة الخالق كدلالة التخصيص على الإرادة والمشيئة ، والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذه الطريق ، تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ويثبت علمه وقدرته وحياته ، وتارة يدلهم بالنعم والآيات على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته ، وهذا كثير في القرآن ، وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه لم يكن أقل منه بكثير ، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم ، وعقاب الكفار يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات الموجودة في مفعولاته ومأموراته وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على الإرادة وأولى لقوة العلة الغائية ; ولهذا كان ما في القرآن من بيان مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة .

                          " قال شيخ الإسلام - طيب الله مضجعه - : ومما يوضح ذلك أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر به الله ورسوله من صفاته - تعالى - ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على تلك الصفة بعينها ، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله - تعالى - وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا ، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 : 124 ] ومن سلك هذا السبيل فليس في [ ص: 169 ] الحقيقة مؤمنا بالرسول ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية ، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به ، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به بل يتأوله أو يفوضه ، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به فلا فرق عند من سلك هذه السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم الرسول وإخباره ، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده . قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية وقد صرح بهذا أئمة هذا الطريق ، قال : ثم أهل الطريق الثبوتية فيهم من يحيل على الكشف ، وكل من الطريقين فيها من الاضطراب والاختلاف ما لا ينضبط ، وليست واحدة منهما تحصل المقصود بدون الطريق النبوية ، والطريق النبوية بها يحصل الإيمان النافع في الآخرة ، ثم إن حصل قياس أو كشف يوافق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حسنا مع أن القرآن قد نبه على الطريق الاعتبارية التي بها يستدل على مثل ما في القرآن كما قال - تعالى - : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 : 53 ] فأخبر أنه يري عباده من الآيات المشهودة التي هي أدلة عقلية ما يبين أن القرآن حق ، وليس لقائل أن يقول : إنما خصت هذه الصفات بالذكر لأن السمع موقوف عليها دون غيرها ، فإن الأمر ليس كذلك ، لأن التصديق بالسمعيات ليس موقوفا على إثبات السمع والبصر ونحو ذلك . ثم قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : والمقصود هنا التنبيه على أن ما يجب إثباته لله - تعالى - من الصفات ليس مقصورا على ما ذكره هؤلاء مع إثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع ، فإن من عرف حقائق أقوال الناس بطرقهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة فعلم الحق ورحم الخلق ، وكان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

                          وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله ، وأما أهل البدع فيبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم فيها . انتهى وبالله التوفيق .

                          أقول : وقد اشتهر عن الحنابلة وغيرهم من أهل الأثر إثبات صفة العلو لله - تعالى - حتى رماهم بعض المتكلمين بالقول بالتجسيم ، لأن ذلك قول بالجهة وهو يستلزم الحد والجسمية فآخذوهم بلازم المذهب وهم يجهلون مذهبهم وهم لم يقولوا إلا بالنقل الموافق للعقل ، وهاك كلام واحد منه نقلا عن شرح عقيدة السفاريني وهو :

                          " ذكر الإمام أبو العباس عماد الدين أحمد الواسطي الصوفي المحقق العارف تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله سرهما - الذي قال فيه شيخ الإسلام : إنه جنيد زمانه في رسالته ( نصيحة الإخوان ) ما حاصله في مسألة العلو والفوقية والاستواء : هو أن الله - عز وجل - كان ولا مكان ولا عرش ولا ماء ولا فضاء ولا هواء ولا خلاء ولا ملاء ، وأنه كان منفردا في قدمه وأزليته متوحدا في فردانيته لا يوصف بأنه فوق كذا إذ لا شيء غيره هو - تعالى - [ ص: 170 ] سابق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم ، وهو لا زمان له - تعالى - ، وهو - تعالى - في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته ، فلما اقتضت الإرادة أن يكون الكون له جهات من العلو والسفل وهو - سبحانه - منزه عن صفات الحدث ، فكون الأكوان وجعل جهتي العلو والسفل ، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت لكونه مربوبا مخلوقا ، واقتضت العظمة الربانية أن يكون باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته إذ لا فوق فيها ولا تحت ، والرب - سبحانه وتعالى - كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته لم يحدث له في ذاته ولا في صفاته ما لم يكن له في قدمه وأزليته فهو الآن كما كان . لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات والحدود والملأ ذا الفوقية والتحتية كان مقتضى حكم العظمة الربوبية أن يكون فوق ملكه ، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم المكون ، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار إليه من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية ، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله ، فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة وتقع على عظمة الله - تعالى - كما يليق به ، لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في أعلى جزء من الكون فإنها إشارة إلى جسم وتلك إلى إثبات . إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له - سبحانه وتعالى - في قدمه لكن لم يظهر حكمها إلا في خلق العرش كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة ، وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله ، قال : فإذا علم ذلك فالأمر الذي تهرب المتأولة منه حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة والاستواء بالاستيلاء فنحن أشد الناس هربا من ذلك وتنزيها للباري - تعالى - عن الحد الذي لا يحصره ، فلا يحد بحد يحصره ، بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته ، والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وسفله إذ لا تمكن الإشارة إليه إلا هكذا وهو في قدسه - سبحانه - منزه عن صفات الحدث ، وليس في القدم فوقية ولا تحتية ، وإنما من هو محصور في التحت لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه ، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة ، وتنتهي الجهات عند العرش ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ولا يكفيه الوهم فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا مكيفا لا ممثلا ، ( قال ) : فإذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصا من شبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك ، والصدر ينشرح له ، فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره ، والوقوف في ذلك جهل وغي مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها ، فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه ولا نقف في ذلك . قال : وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة ، [ ص: 171 ] فمن وفقه الله للإثبات فلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله - تعالى - والله أعلم اهـ .

                          أقول : ولأستاذه ابن تيمية نحو ذلك في بيان معنى ما ورد من أن الله - تعالى - هو القاهر فوق عباده ، ذاته في السماء فلا يعنون بشيء مما ورد أن ذات الله القديم محصورة في السماء أو العرش أو محدودة في الجهة التي فوق رءوسنا ، بل صرح ابن تيمية وابن القيم وغيرهما بأن جهة الرأس كسائر الجهات من اليمين والشمال وغيرهما هي من الأمور النسبية التي لا حقيقة لها في نفسها وإنما يفسرون ذلك بما علمت . فإن قلت : إن ما ذكر آنفا يشبه تأويل المتكلمين في قولهم إن العلو علو المرتبة أو هو هو أقل : إنه يتفق معه في تنزيه الباري - تعالى - عن مماثلة الأجسام المحدودة والمحدثات المقهورة الخاضعة لإرادة القاهر فوق عباده ، ولكنه يفارقه بعدم حظر استعمال ما جاءت به النصوص للعامة والخاصة مع اعتقاد التنزيه لا مع ملاحظة ما قيل في التأويل ، فأهل التأويل يحظرون أن يقول الناس في مخاطباتهم مثل إن الله في السماء لئلا يوهم ذلك أن ذات الخالق القديم محصور في هذا المخلوق الذي فوق رءوسنا فهم يريدون المبالغة في التنزيه ، والأثريون يجيزون استعمال كل ما ورد محتجين بنصوص الكتاب والسنة ، وما كان لبشر أن يدعي أنه أحرص على تنزيه الله من الله ورسوله ، وقد يبالغ هؤلاء فيستعملون من ذلك ما لم يرد به نص ، أو النص في غير ما ورد فيه ، أو على غير الوجه الذي ورد فيه توسعا وعملا بالقياس . والقياس في هذا ممنوع المقام ، وللإمام الغزالي تفصيل في كيفية الاستعمال ، وتحقيق في هذا البحث قاله بعد الرجوع إلى مذهب السلف ، فننقله هنا من كتابه ( إلجام العوام عن علم الكلام ) وهو :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية