الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أليس الله بكاف عبده قرأ الجمهور عبده بالإفراد . وقرأ حمزة والكسائي " عباده " بالجمع ، فعلى القراءة الأولى المراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو الجنس ، ويدخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - دخولا أوليا ، وعلى القراءة الأخرى المراد الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع ، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور لقوله عقبه : ويخوفونك والاستفهام للإنكار لعدم كفايته - سبحانه - على أبلغ وجه كأنه بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر هذا بالثواب ، وهذا بالعقاب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " بكافي عباده " بالإضافة ، وقرئ " يكافي " بصيغة المضارع ، وقوله : ويخوفونك بالذين من دونه يجوز أن يكون في محل نصب على الحال ، إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك ، ويجوز أن تكون مستأنفة ، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها ومن يضلل الله فما له من هاد أي : من حق عليه القضاء بضلاله فما له من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يهد الله فما له من مضل يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة أليس الله بعزيز أي : غالب لكل شيء قاهر له ذي انتقام ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه وما ينزله بهم من سوط عقابه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ذكر - سبحانه - اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله - سبحانه - منع عبادتهم للأوثان ، واتخاذهم الآلهة من دون الله ، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله - سبحانه - فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة ؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة ، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل ، وعملوا بما هو محض الجهل .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمر الله - سبحانه - رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أي : أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر ، والضر هو الشدة أو أعلى . أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته عني بحيث لا تصل إلي ، والرحمة النعمة والرخاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور ممسكات و كاشفات في الموضعين بالإضافة وقرأهما أبو عمرو بالتنوين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فسكتوا ، وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع ، فنزل قل حسبي الله في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر عليه يتوكل المتوكلون أي : عليه ، لا على غيره يعتمد المعتمدون ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم قراءة أبي عمرو .

                                                                                                                                                                                                                                      لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال ، وما كان كذلك فتنوينه أجود ، وبها قرأ الحسن وعاصم .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أمره الله أن يهددهم ويتوعدهم فقال : قل يا قوم اعملوا على مكانتكم أي : على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها إني عامل أي : على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها ، وحذف ذلك للعلم به مما قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أي : يهينه ويذله في الدنيا ، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق ، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر عذاب الآخرة فقال : ويحل عليه عذاب مقيم أي : دائم مستمر في الدار الآخرة ، وهو عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لما كان يعظم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إصرارهم على [ ص: 1285 ] الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان ، لا بأن يهدي من ضل ، فقال : إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس أي : لأجلهم ولبيان ما كلفوا به ، و بالحق حال من الفاعل أو المفعول أي : محقين أو متلبسا بالحق فمن اهتدى طريق الحق وسلكها فلنفسه ومن ضل عنها فإنما يضل عليها أي : على نفسه ، فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره وما أنت عليهم بوكيل أي : بمكلف بهدايتهم مخاطب بها ، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف ، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر - سبحانه - نوعا من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال : الله يتوفى الأنفس حين موتها أي : يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان والتي لم تمت في منامها أي : ويتوفى الأنفس التي لم تمت أي : لم يحضر أجلها في منامها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف في هذا ، فقيل : يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد . وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال : وقد يكون توفيها نومها ، فيكون التقدير على هذا : والتي لم تمت وفاتها نومها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : لكل إنسان نفسان : أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل ، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القشيري : في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ، ولهذا قال : فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى أي : النائمة إلى أجل مسمى وهو الوقت المضروب لموته ، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى فيعيدها ، والأولى أن يقال : إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به في محل الحس ، فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل : ومعنى يتوفى الأنفس حين موتها هو على حذف مضاف أي : عند موت أجسادها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو شيئان ؟ والكلام في ذلك يطول جدا وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الجمهور " قضى " مبنيا للفاعل أي : قضى الله عليها الموت وقرأ حمزة والكسائي ، والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله : الله يتوفى الأنفس والإشارة بقوله : إن في ذلك إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس لآيات أي : لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة ، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل لقوم يتفكرون في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته ، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية قال : نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فيتوفى الله النفس في منامها ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش ، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات ، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه في الآية قال : تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتساءلون بينهم ما شاء الله ، ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء في أجسادهم إلى أجل مسمى لا يغلط بشيء منها فذلك قوله إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في الآية قال : كل نفس لها سبب تجري فيه ، فإذا قضي عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب ، والتي لم تمت في منامها تترك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري ، ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إذا أوى أحدكم إلى فراشه لينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية