الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
295 [ ص: 11 ] حديث ثان لسمي

مالك عن سمي مولى أبي بكر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوك على الطريق فأخذه ، فشكر الله له فغفر له . وقال : الشهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغرق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله . وقال : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا .

التالي السابق


قال أبو عمر : هذه ثلاثة أحاديث في واحد ، كذلك يرويها جماعة من أصحاب مالك ، وكذا هي محفوظة عن أبي هريرة : أحدها حديث الذي نزع غصن الشوك عن الطريق ، والثاني حديث الشهداء ، والثالث قوله : لو يعلم الناس ما في النداء إلى آخر الحديث ، وهذا القسم الثالث سقط ليحيى من باب ، وهو عنده في باب آخر ، منها ما كان ينبغي أن يكون في باب العتمة والصبح ، وقوله : ولو يعلم الناس ما في النداء إلى قوله : " ولو حبوا " فلم يروه عنه ابنه عبيد الله في ذلك الباب ، ورواه ابن وضاح عن يحيى ، وهو عند جماعة الرواة للموطأ عن مالك لا يختلفون في ذلك فيما علمت .

[ ص: 12 ] وفي هذا الحديث من الفقه : أن نزع الأذى من الطرق من أعمال البر ، وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران والحسنات ، ولا ينبغي للعاقل المؤمن أن يحتقر شيئا من أعمال البر ، فربما غفر له بأقلها ، ألا ترى إلى ما في هذا الحديث من أن الله شكر له إذ نزع غصن الشوك عن الطريق فغفر له ذنوبه ؟ ! وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، إحداها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ، وقال الله - عز وجل - : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) وقال الحكيم :

ومتى تفعل الكثير من الخيـ ـر إذا كنت تاركا لأقله .

حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان قال : حدثنا سعيد بن خمير وسعد بن عثمان قالا : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال : حدثنا النضر بن محمد قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا أبو زميل ، عن مالك بن مرثد ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تبسمك في وجه أخيك صدقة ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة ، وإرشادك الرجل في أرض الضلالة صدقة ، ونظرك للرجل الرديء البصر صدقة ، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة ، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة .

[ ص: 13 ] أخبرنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا محمد بن يوسف بن سابق ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حوسب رجل فلم يوجد له من الخير إلا غصن شوك نحاه عن الطريق فغفر له . هكذا رواه أبو معاوية عن هشام بهذا الإسناد ، وخالفه فيه غيره من أصحاب هشام .

وأما قوله : الشهداء خمسة فهكذا جاء في ( هذا ) الحديث ، وقد جاء في غيره مما قد ذكرناه في باب عبد الله بن جابر بن عتيك من كتابنا هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله ، وهذه زيادة ، وقد مضى القول في ذلك كله ومعانيه في ذلك الباب من هذا الكتاب والحمد لله .

أخبرني خلف بن القاسم ، حدثنا علي بن جعفر بن محمد بن عيسى البغدادي ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله .

وروى مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك بن الحارث بن عتيك ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله : المطعون ، والغرق ، وصاحب ذات الجنب ، والمبطون ، والحرق ، والذي يموت تحت الهدم ، والمرأة تموت بجمع ، يعني كلهم شهيد .

[ ص: 14 ] وقد تقدم تفسير معاني هذا الباب ممهدا في باب عبد الله بن جابر من هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا ، والحمد لله .

وفي هذا الحديث أيضا فضل النداء وهو الأذان ، وفضل الصف الأول ، وفضل البكور بالهاجرة إلى الصلاة في المسجد في الجمعة وغيرها ، ولا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر ثم تخطى إلى الصف الأول ، وفي هذا ما يوضح لك معنى فضل الصف الأول ، أنه ورد من أجل البكور إليه والتقدم ، والله أعلم .

وفيه فضل شهود العتمة والصبح في جماعة ، وقد مضت هذه المعاني مكررة في غير موضع من كتابنا هذا ، فلا معنى لتكريرها بعد هاهنا .

وفي هذا الحديث أيضا جواز تسمية العشاء بالعتمة ، وهو موضع اختلاف بين أهل العلم ، فمن كره ذلك احتج بأن الله - عز وجل - سماها العشاء بقوله : ( ومن بعد صلاة العشاء ) ، واحتج أيضا بحديث أبي سلمة ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هذه ، إنما هي العشاء ، وإنما يسمونها العتمة لأنهم يعتمون بالإبل ومن أجاز تسمية العشاء بالعتمة فحجته حديث سمي المذكور في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا فإنما الاستهام على الصف لا على الأذان ، وعليه رجع الضمير في " عليه " ، وقال ابن حبيب : إنما ذلك في الموضع الذي لا يؤذن فيه إلا واحد كالمغرب والجمعة تجمع كثرة المؤذنين .

[ ص: 15 ] قال أبو عمر : يحضهم على ذلك لئلا يزهدوا في الأذان فتبطل السنة فيه بالتواكل وقلة الرغبة ، وقد روى أبو حمزة السكري عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين . قالوا : يا رسول الله ، لقد تركتنا بعدك نتنافس في الأذان ، فقال : إن بعدكم قوما سفلتهم مؤذنوهم ، وهذا حديث انفرد به أبو حمزة هذا وليس بالقوي ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية