الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني : فيما يستفاد من الأرض من المعادن والمياه وغيرها ودفع الضرر ، وفي الجواهر المعادن التي فيها الزكاة هي لمن ظهرت في ملكه عند مالك ; لأنه من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها ، وللإمام يرى فيها رأيه يعطيها لمن شاء عند ابن القاسم لأجل الزكاة ، وما ظهر فيما هو لجماعة المسلمين كالبراري من أرض العرب والعنوة أقطعه الإمام مدة محدودة أو غير محدودة ولا يملك رقبتها ، كما يقطع أرض العنوة وما ظهر منها في أرض الصلح أقطعها الإمام ; لأن الصلح إنما يتناول المعلوم ، قاله : ابن حبيب ومن لقيه من أصحاب مالك ، وهي هنا لأهل الصلح عند ابن القاسم بناء على أنه تناولها الصلح ، إذ لا يشترط معرفة كل ما يصالح عليه على التفصيل اتفاقا ، وما لا زكاة فيه كالنحاس أقطعه الإمام عند ابن القاسم ; لأنه مال لم يتعين مالكه ، وقال سحنون : لا يليها الإمام كالعنبر وجملة ما يخرج من البحر ، ولعدم الزكاة فيها ، وقال ( ش ) : المعادن الظاهرة كالملح والقار لا يقطعها الإمام ; لأنها كالماء ، والباطنة يقطعها .

                                                                                                                [ ص: 160 ] فرع : قال صاحب البيان : إذا أقطعت المعدن فتركته وغبت عنه أو طال عملك فيه وانتفاعك به فللإمام أن يقطعه غيرك ، إلا أن يقطعك حياتك أو مدة معلومة فلا حتى يموت أو تنقضي المدة ; لأنك ملكك ذلك لحكمه لك به ، ولا يقطعه في السفر القريب ; لأنه في معنى الإقامة .

                                                                                                                فرع : في الجواهر المياه ثلاثة أقسام : خاص محرز في الأواني والآبار المحتفرة في الأملاك فهي كسائر الأملاك ، وقاله ( ش ) ، وعام منفك عن الاختصاص وهو ضربان : الضرب الأول : ما طريقه مباحة كالجاري من الجبل وبطون الأودية فيسقى به الأعلى فالأعلى ، قال عبد الملك : يرسل الأعلى جميع الماء في حائطه حتى يبلغ كعب من يقوم فيه فيغلق مدخل الماء ، وقاله ( ش ) ، لما في الموطأ قال عليه السلام في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل وهما اسما واديين بالمدينة ، ولما روي أن الزبير ورجلا تنازعا في شراج - بكسر الشين المنقوطة ، والراء المهملة - وأحدهما شرج بالإسكان وهو مجرى الماء من الجدار إلى السهل ، وأصله مجتمع الشيء ، ومنه سمي الدبر شرجا والمجرة شرج السماء ، والحرة أرض مليئة الحجارة سودها ، فقال الأنصاري للزبير : سرح - بالسين المهملة - الماء أي أرسله ، فأبى الزبير فاختصما إليه عليه السلام فقال عليه السلام للزبير اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى جارك ، فقال الأنصاري : إن كان ابن عمتك فتلون [ ص: 161 ] وجهه عليه السلام فقال : يا زبير ، اسق أرضك وامسك الماء حتى يبلغ الجدر ، بفتح الجيم وتسكين الدال المهملة .

                                                                                                                فوائد : أمر عليه السلام قريبه بالمسامحة ، فلما لم يقع لها موقع عند خصمه أمر قريبه باستيفاء حقه لئلا يضيع غبنا . قال الجوهري : الجدر والجدار الحائط ، وجمع الجدار جدر والجدر جدران كبطن وبطنان ، والجذر بالذال المعجمة الأصل بفتح الجيم وكسرها ، وإذا وصل الماء الجذر فقد وصل الكعبين ، وقال ابن كنانة : بلغنا أنه إذا سقي بالسيل الزرع أمسك حتى يبلغ النعل ، وفي النخل والشجر حتى يبلغ الكعبين ، وإمساكه في الجميع إلى الكعبين أحب إلينا ; لأنه أبلغ في الري . وقال ابن وهب : يمسك الأول بقدر حائطه من الكعبين إلى الأسفل ثم يرسل ، وعن مالك إذا وصل إلى الكعبين وروى ، أرسله كله لحصول المقصود ، وقال سحنون : فإن اختلفا بالانخفاض والارتفاع أمر صاحبه بتسويته ، فإن تعذر سقى كل مكان على حدته هنا إذا لم يكن أحيا الأسفل قبل الأعلى ، فلو أحياه للأسفل ثم أراد غيره يحيي لينفرد بالماء وذلك يفسد عليه ، منع نفيا للضرر ، قال صاحب البيان : قاله ابن القاسم . وجوزه أصبغ - وإن لم يكن في الماء فضل ; لعموم قوله عليه السلام يمسك الأعلى حتى يبلغ الكعبين ، وفي الجواهر قال سحنون : ويقدم أقدم الموضعين لتقدم استحقاقه ، فإن كانا متقابلين ، قال سحنون : يقسم الماء بينهما لتساويهما في الاستحقاق ، فإن قابل الأسفل بعض الأعلى حكم للمقابل بحكم الأعلى وللآخر بحكمه .

                                                                                                                [ ص: 162 ] الضرب الثاني : مجراه أرض مملوكة فهو لمالكها ويمنعه إن شاء فإن تعدد المالك كجماعة حفروا نهرا يحملونه إلى أرضهم أو في أرضهم ، قسموه على قدر أملاكهم بالقلد وقاله : ( ش ) ولا يقدم أحد على أحد ، وصفة القلد تخرق قدرا في أسفلها وتملأ بالماء وتكون قدر أقلهم نصيبا مقدارا ، يجري ماؤه على ذلك الخرق فينتفع بالماء كله إلى أن يفنى ماء القدر ويملأ لهم بقدر حصصهم ، أو تثقب خشبة ثقبا يجري منها الماء يأخذ كل واحد بقسطه ويعمل في ذلك من الطرق ما جرت به العوائد ، والقصد حصول العدل . والقسم الثالث متردد بين العموم والخصوص وهو بئر الفيافي والبوادي للماشية ، لا يباع ولا يورث بل حافرها أحق بمائها هو وورثته ، قال عبد الملك : ولا حظ فيها للزوج ولا للزوجة ; لأنها إنما يقصد بحفرها في العادة الخلف اللازم والزوجية عارض غير محقق ، وما فضل لا يمنع ; لأن العادة الصدقة بالفاضل حملا للحفر على الغالب ، فإن أشهد أنه يريد التمليك ، قال القاضي أبو الوليد : لم أر فيه نصا ، والظاهر أنه ملكه كما أحيا في القرب أو البعد .

                                                                                                                فرع : قال صاحب المقدمات : إذا تشاح أهل البئر في التبدئة ، قال عبد الملك : إن كانت عادة حملوا عليها وإلا استهموا ، قال : وذلك عندي إذا استوى قعددهم من حافرها وإلا فالأقرب إليه أحق ، ولا حق فيها للزوجين إذا لم يكونا من ذلك البطن .

                                                                                                                فرع : قال : والماجل والجب كالبئر عند مالك في عدم منع الناس من فضله ، وقال [ ص: 163 ] المغيرة له في الجب العظيم نفقته وليس ماؤه يخلف كالبئر .

                                                                                                                فرع : قال : قال مالك : يبدأ أهل الماء حتى يرووا ، ثم المارة حتى يرووا ، ثم دواب أهل الماء حتى تروى ، ثم دواب المارة حتى تروى ، ثم مواشي أهل الماء حتى تروى ، ثم الفضل لمواشي الناس . وبدأ أشهب بدواب المسافرين على دواب أهل الماء لفرط الحاجة تبعثها للسفر ، فإن ضاق الماء بدئ من أضر به تبدئة صاحبه أكثر بنفسه ودوابه ، فإن استووا في الضرر سوي بينهم عند أشهب ، وقدم أهل الماء عند ابن لبابة بأنفسهم ودوابهم نظرا لتقدم الاستحقاق ، واستحقاق الماء ضعيف في أصله فيطرح عند الضرر ، فإن قل الماء جدا وخيف الهلاك بالتبدئة ، بدئ بنفس أهل الماء بقدر ما يذهب الخوف ، ثم المسافرون كذلك ، ثم دواب أهل الماء كذلك ، ثم دواب المسافرين كذلك ، وروى ابن وهب أنه - عليه السلام - قال : لا يقطع طريق ولا يمنع فضل ، ولابن السبيل عارية الدلو والرشاء والحوض إن لم يكن له أداة تعينه ويخلى ببينه الركية ، وأهدر عمر - رضي الله عنه - جراحات أهل الماء وأغرمهم جراحات ابن السبيل حين اقتتلوا عليه ، وقال : أبناء السبيل أولى بالماء من أبناء الساقي حتى يرووا .

                                                                                                                فرع : قال : هل لأصحاب الأخشاب التي تجري في الأنهار جرها وإن أخرقت سداد السمك قولان .

                                                                                                                فرع : في البيان قال ابن القاسم : إذا جرى فضل مائك في أرض آخر فغرس آخر [ ص: 164 ] عليه ليس لك منع الفضل بعد ذلك ولا بيعه لتعلق حقه بالغرس ، إلا أن يحفر بئرا لنفسه ، ويجري فيه الخلاف هل السكوت إذن أم لا ؟ وإن كنت لم تعلم فلك بيعه له إن كان له بغير إلا على قول من منع بيع الماء مطلقا ، فإن لم يكن له ثمن قضي له به بغير ثمن .

                                                                                                                فرع : في الجواهر قال أشهب : يمنع من بيع الحطب النابت في ملكه ، وقال ( ح ) لقوله - عليه السلام - الناس شركاء في ثلاث : الماء والنار والكلاء . وقياسا على الماء الذي يجريه الله تعالى على ظهر الأرض ، وقياسا على ما يفرخ في أرضه من الطير ألا يجره فيحمله فيبيعه ، وقال مطرف : يبيع ما في مروجه وحماه مما يملك من الأرض ، وما سواه لا يجوز بيعه ، وقاله ( ش ) قياسا على صوف غنمه . قال ابن يونس : الذي يمنعه ويبيعه من الخصب وإن لم يحتج إليه ما في حماه ومروجه ، وأما ما في أوديته وفحوص أرضه فيجبر على إباحته إن استغنى عنه ، إلا أن تضر به إباحته في زرع حوله ، وإذا أوقف أرضه للكلأ ، فله منعه عند ابن القاسم ; لأنه قد منع نفسه منافعه منها ، وإن لم يوقفها فهو أحق به ، ولا يمنعه ولا يبيعه ، قاله : ابن القاسم وأشهب ، وقال عبد الملك : الكل سواء وله المنع . قال صاحب البيان : الأرض المملوكة أربعة أقسام : محظرة بحوائط فله المنع والبيع ، احتاج إليه أم لا اتفاقا ، ومروج القرية وعفاؤها لا تمنع ولا تباع اتفاقا إلا أن يؤذيه دخول الناس إليه ، وأرض ترك زراعتها ليرعاها قيل : يمنعه إن احتاج إليه ويبيعه إن لم يحتج [ ص: 165 ] إليه ، وقيل : يجبر على تخليته للناس ، وقال أشهب : له المنع إن احتاج إليه دون البيع وفحوص أرضه التي لم يبورها ، له المنع عند ابن القاسم وأشهب إن احتاج إليه ، ويبيعه إن لم يحتج إليه ، وعن أشهب لا يبيع .

                                                                                                                فرع : قال صاحب البيان : إذا قدم اثنان إلى الكلأ المباح فهما سواء ، فإن سبق أحدهما فنزله وجعل يرعى ما حوله أو حفر فيه بئرا ، قال ابن القاسم : هو أسوة للناس ; لعدم الحوز ، وقال أشهب : هو أحق بمقدار حاجته لسبقه إن انتجع إليه وقصده من بعد ، وقال المغيرة : إن حفر بئرا فهو أحق وإلا فلا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية