الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 155 ] الباب الخامس

في أحكام النون الساكنة والتنوين

محتويات الباب

1 – تعريف النون الساكنة والتنوين، والأمور التي تخالف فيها النون.

2 – الكلام على الحكم الأول «الإظهار» ووجهه وضوابطه.

3 – الكلام على الحكم الثاني «الإدغام» وأقسامه ووجهه وضوابطه.

4 – تبيهات هامة بخصوص الإدغام.

5 – الكلام على الحكم الثالث «القلب» وكيفية أدائه ووجهه وضوابطه.

6 – الكلام على الحكم الرابع «الإخفاء» ووجهه وضوابطه.

7 – تبيهات هامة بخصوص الإخفاء من حيث الأداء والكيفية والأقسام ... إلخ.

[ ص: 156 ] [ ص: 157 ] (أ) تعريف النون الساكنة وإخراج محترزات القيود :

النون الساكنة هي التي سكونها ثابت في الوصل والوقف نحو: من هاجر [الحشر: 9] ينهون [الأنعام: 26] إن عليك [الشورى: 48] فقولنا: "النون الساكنة" خرج به النون المتحركة المخففة نحو: قسمنا بينهم [الزخرف: 32] والمشددة من الجنة والناس [الناس: 6] وقولنا: "سكونها ثابت" خرج به ما كان ثابتا وزال للتخلص من التقاء الساكنين نحو: إن ارتبتم [الطلاق: 4] إلا من ارتضى [الجن: 27] وقولنا: "في الوصل والوقف" خرج به السكون العارض كسكون النون المتطرفة في الوقف نحو: وهم يعلمون [البقرة: 75] و نستعين [الفاتحة: 5].

ومن ثم يتضح أن النون الساكنة التي سكونها ثابت في الوصل والوقف هي التي "تثبت خطا ولفظا ووصلا ووقفا" وهي المقصودة بالذكر هنا، وتقع في الأسماء والأفعال متوسطة ومتطرفة، وفي الحروف متطرفة فقط.

(ب) تعريف التنوين وإخراج محترزات القيود:

التنوين معناه في اللغة: التصويت، وفي الاصطلاح "نون ساكنة زائدة لغير توكيد تلحق آخر الاسم وصلا وتفارقه خطا ووقفا، نحو قوله تعالى: والله غفور رحيم [آل عمران: 31]. والله سميع عليم [آل عمران: 34].

[ ص: 158 ] فقولنا هنا: "نون ساكنة" خرج به نون التنوين المتحركة للتخلص من التقاء الساكنين نحو: فتيلا انظر [النساء: 49 - 50] منيب ادخلوها [ق: 33 - 34].

وقولنا: "زائدة" خرج به النون الأصلية التي سبق الكلام عليها قريبا.

وقولنا: "لغير توكيد" خرج به نون التوكيد الخفيفة في وليكونا [يوسف: 32] لنسفعا [العلق: 15] في قوله تعالى: وليكونا من الصاغرين [يوسف: 32] وفي قوله سبحانه: لنسفعا بالناصية [العلق: 15] لأنها ليست تنوينا وإن أشبهته في إبدالها ألفا في الوقف؛ لاتصالها بالفعل، ولا ثالث لهما في القرآن الكريم.

وقولنا: "تلحق آخر الاسم وصلا" خرج به الفعل والحرف، فهي لا تلحقهما أبدا؛ لأنهما لا ينونان بحال.

وقولنا: "وتفارقه خطا ووقفا" خرج به النون الأصلية، فهي لا تفارق الاسم مطلقا أثناء وجودها فيه.

ويؤخذ من هذا التعريف أن التنوين خاص بالأسماء، فلا يدخل الأفعال ولا الحروف، ولا يكون إلا متطرفا؛ لأنه لا يوجد إلا بين كلمتين، ولا يثبت إلا في الوصل واللفظ.

(ج) الأمور التي تخالف فيها النون الساكنة التنوين:

مما تقدم ذكره من تعريف كل من النون الساكنة والتنوين يتبين أن النون الساكنة تخالف التنوين في أربعة أمور لا بد من معرفتها جيدا، وها هي:

الأول: أن النون الساكنة تقع في وسط الكلمة وفي آخرها، والتنوين لا يقع إلا في الآخر.

[ ص: 159 ] الثاني: أن النون الساكنة تقع في الأسماء والأفعال والحروف، والتنوين لا يقع إلا في الأسماء.

الثالث: أن النون الساكنة تكون ثابتة في الوصل والوقف، والتنوين لا يثبت إلا في الوصل.

الرابع: أن النون الساكنة تكون ثابتة في الخط واللفظ، والتنوين لا يثبت إلا في اللفظ، فتأمل.

هذا، وللنون الساكنة والتنوين بالنسبة لما يأتي بعدهما من الحروف الهجائية أربعة أحكام، وهي الإظهار والإدغام والقلب والإخفاء.

وقد أشار إليها الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية بقوله:


وحكم تنوين ونون يلفى إظهار ادغام وقلب اخفا

اهـ

ولكل من هذه الأحكام الأربعة كلام خاص نوضحه فيما يلي:

الكلام على الحكم الأول "الإظهار" ووجهه وضوابطه

الإظهار في اللغة البيان، ومن معانيه في الاصطلاح: إخراج كل حرف من مخرجه من غير غنة في الحرف والمظهر، وقال بعضهم: "هو فصل الحرف [ ص: 160 ] الأول من الثاني من غير سكت عليه، وقيل غير ذلك".

وحروفه في هذا الباب ستة: الهمزة والهاء، والعين والحاء المهملتان، والغين والخاء المعجمتان، وهي المسماة بحروف الحلق لخروجها منه كما تقدم في المخارج، فإذا وقع حرف من هذه الأحرف بعد النون الساكنة سواء أكان معها في كلمة أم كان منفصلا عنها، بأن كانت النون آخر الكلمة وحرف الحلق أول الثانية، أو بعد التنوين، ولا يكون إلا من كلمتين - وجب الإظهار، ويسمى إظهارا حلقيا، وفيما يلي الأمثلة للنون من كلمة ومن كلمتين وللتنوين مع هذه الأحرف:

فالهمزة: في كلمة وينأون [الأنعام: 26] ولا ثاني لها في التنزيل، ونحو: من آمن [البقرة: 253] و وجنات ألفافا [النبأ: 16].

والهاء: نحو: ينهون [الأنعام: 26] من هاجر [الحشر: 9] ولكل قوم هاد [الرعد: 7].

والعين المهملة: نحو: أنعم الله [النساء: 69] إن عليك [الشورى: 48] إن ربك حكيم عليم [الأنعام: 83].

والحاء المهملة أيضا نحو: وتنحتون [الشعراء: 149] من حكيم حميد [فصلت: 42].

[ ص: 161 ] والغين المعجمة في كلمة فسينغضون [الإسراء: 51] ولا ثاني لها في التنزيل، ونحو: من غل [الحجر: 47] إن الله لعفو غفور [الحج: 60].

والخاء المعجمة في كلمة والمنخنقة [المائدة: 3] ولا ثاني لها في القرآن الكريم، ونحو: من خير [البقرة: 197] إن الله عليم خبير [لقمان: 34].

ووجه إظهار النون الساكنة والتنوين عند هذه الأحرف بعد مخرجهما عن مخرجهن كل البعد؛ إذ هن يخرجن من الحلق وهما من طرف اللسان، ولم يحسن الإدغام لعدم وجود سببه، ولا الإخفاء؛ لأنه قريب منه، ولا القلب؛ لأنه وسيلة إلى الإخفاء، ولهذا تعين الإظهار الذي هو الأصل.

وسمي إظهارا لظهور النون الساكنة والتنوين عند ملاقاتهما بحرف من هذه الأحرف، وسمي حلقيا لخروج حروفه من الحلق، وسماه بعضهم التبيين، وقد أشار صاحب التحفة إلى أحكام النون الساكنة والتنوين الأربعة مبينا منها الإظهار وحروفه بقوله:


للنون إن تسكن وللتنوين     أربع أحكام فخذ تبييني
فالأول الإظهار قبل أحرف     للحلق ست رتبت فلتعرف
همز فهاء ثم عين حاء     مهملتان ثم غين خاء



[ ص: 162 ] الكلام على الحكم الثاني «الإدغام» وأقسامه ووجهه وضوابطه

من معاني الإدغام في اللغة الإدخال، وفي الاصطلاح: التقاء حرف ساكن بحرف متحرك بحيث يصير الحرفان حرفا واحدا مشددا، يرتفع اللسان بهما ارتفاعة واحدة وهو بوزن حرفين.

وحروفه في هذا الباب ستة مجموعة في قول صاحب التحفة "يرملون" وهي الياء المثناة تحت، والراء، والميم، واللام، والواو، والنون.

فإذا وقع حرف من هذه الأحرف الستة بعد النون الساكنة - بشرط أن تكون النون آخر الكلمة وأحد هذه الأحرف أول الثانية - أو بعد التنوين - ولا يكون إلا من كلمتين - وجب إدغامها، وتسمى النون الساكنة والتنوين مدغما - بفتح الغين - ويسمى أحد حروف (يرملون) مدغما فيه، وينقسم هذا الإدغام إلى قسمين:

الأول: إدغام بغنة.

الثاني: إدغام بغير غنة، ولكل تفصيل نوضحه فيما يلي:

الإدغام بغنة: يختص هذا الإدغام بأربعة أحرف من حروف "يرملون" مجموعة في قول الكثير من أئمتنا في لفظ "ينمو" وهي الياء المثناة تحت، والنون، والميم، والواو، فإذا وقع حرف من هذه الأحرف الأربعة بعد النون الساكنة - بشرط انفصاله عنها كما تقدم - أو بعد التنوين، أو بعد نون التوكيد الخفيفة المتصلة بالفعل المضارع الشبيهة بالتنوين - وجب الإدغام، ويسمى إدغاما بغنة، وإليك أمثلة الجميع مع هذه الأحرف:

فالياء: نحو: إن يقولون [الكهف: 5] يومئذ يوفيهم [النور: 25].

[ ص: 163 ] والنون: نحو: إن نقول [هود: 54] ملكا نقاتل في سبيل الله [البقرة: 246].

والميم: نحو: من ماء [السجدة: 8] في كتاب مبين [الأنعام: 59]

وبعد نون التوكيد الخفيفة في قوله تعالى: وليكونا من الصاغرين [يوسف: 32] ولا ثاني لها في التنزيل بالنسبة للإدغام.

والواو نحو: من الله من ولي ولا واق [الرعد: 37].

وسمي إدغاما لإدغام النون والتنوين في حروف (ينمو) بشرطه المذكور آنفا، وسمي بغنة لمصاحبة الغنة له، سواء أكانت للمدغم أم للمدغم فيه، وسيأتي توضيح المدغم والمدغم فيه قريبا.

أما إذا اجتمعت النون الساكنة مع حرف من حروف (ينمو) في كلمة واحدة فيمتنع الإدغام، ويجب الإظهار اتفاقا، ويسمى إظهارا مطلقا؛ لأنه ليس من الإظهار الحلقي المتقدم ولا من الشفوي ولا من القمري الآتي ذكرهما بعد.

ولم يجتمع مع النون الساكنة من حروف ينمو في كلمة واحدة إلا الياء والواو، فالياء في كلمتي الدنيا [الحديد: 20] بنيانا [الكهف: 21] حيث جاءتا في التنزيل، والواو في كلمتي قنوان [الأنعام: 99] صنوان [الرعد: 4].

وإنما وجب الإظهار هنا؛ لئلا يشتبه بالمضاعف وهو ما تكرر أحد أصوله كصوان ورمان، فلو أدغمت النون في الياء أو في الواو لقيل: (الديا - وصوان) فيلتبس الأمر بين ما أصله النون فأدغمت نونه وبين ما أصله التضعيف؛ فلذا أظهرت النون خوف الالتباس، قال الإمام ابن بري في الدرر:

[ ص: 164 ]

وتظهر النون لواو أو يا     في نحو قنوان ونحو الدنيا
خيفة أن يشبه في ادغامه     ما أصله التضعيف لالتزامه

اهـ الإدغام بغير غنة:

ولهذا الإدغام الحرفان الباقيان من أحرف "يرملون" بعد إسقاط حروف (ينمو) المتقدمة وهما اللام والراء، فإذا وقع حرف منهما بعد النون الساكنة - بشرط انفصاله عنها كما تقدم - أو بعد التنوين - ولا يكون إلا من كلمتين كما هو معروف - وجب إدغامهما، ويسمى إدغاما بغير غنة، فتبدل النون الساكنة وكذلك التنوين لاما عند اللام وراء عند الراء، وتدغم اللام في اللام، والراء في الراء إدغاما تاما نحو: ولكن لا يشعرون [البقرة: 12] هدى للمتقين [البقرة: 2] كلوا من رزق ربكم [سبأ: 15] إن ربكم لرءوف رحيم [النحل: 7].

ويستثنى من ذلك لحفص عن عاصم إدغام النون في الراء من قوله تعالى: وقيل من راق [القيامة: 27] بسبب سكته عليها بلا تنفس، وذلك لأن السكت يمنع الإدغام كما يمنع ملاقاة النون بالراء، ولولا السكت لأدغمت على القاعدة.

ووجه الإدغام بغنه: التماثل بالنسبة للنون، والتجانس في الجهر والاستفال والانفتاح بالنسبة للواو والياء، والتجانس في الغنة وفي سائر الصفات الخمس بالنسبة للميم، هذا ما قاله بعضهم، وفيه كلام سنأتي عليه في باب الإدغام إن شاء الله.

[ ص: 165 ] ووجه الإدغام بغير غنه: التقارب في المخرج على مذهب الجمهور، والتجانس على مذهب الفراء وموافقيه؛ إذ النون واللام والراء يخرجن من مخرج واحد على مذهبه كما تقدم، ووجه حذف الغنة هنا المبالغة في التخفيف؛ لأن في بقائها بعض من الثقل، وإن قرئ به في المتواتر كما سيأتي.

تنبيهات هامة:

الأول: يستثنى من الإدغام بالغنة إدغام النون الساكنة في الواو في قوله تعالى: يس والقرآن الحكيم [يس: 1 - 2] و ن والقلم وما يسطرون [القلم: 1] عند من أظهر النون فيهما، ومنهم حفص عن عاصم خلافا للقاعدة السابقة، ووفاقا للرواية، كما أنه استثني من قاعدة اجتماع المدغم والمدغم فيه في كلمة واحدة النون مع الميم من هجاء "طسم" فاتحة الشعراء والقصص، فأدغمها كل القراء إلا حمزة وأبا جعفر فأظهراها خلافا للقاعدة ووفاقا للرواية كذلك.

الثاني: اتفق أهل الأداء على أن الغنة الظاهرة في حالة إدغام النون الساكنة والتنوين في الواو والياء غنة المدغم وهو النون الساكنة والتنوين، وفي حالة إدغامهما في النون غنة المدغم فيه وهو النون من (ينمو)، واختلفوا في حالة إدغامهما في الميم فذهب بعضهم إلى أنها غنة المدغم، وذهب آخرون إلى أنها غنة المدغم فيه وهو الميم لا غنة النون، وهذا هو الصحيح المعول عليه، وبه قال الجمهور، وذلك لأن النون الساكنة والتنوين حالة إدغامهما في الميم انقلبا إلى لفظها، وهذا واضح بأدنى تأمل عند النطق بنحو من مال الله [النور: 33] مثلا ما [البقرة: 26] والله أعلم.

[ ص: 166 ] الثالث: إدغام النون الساكنة والتنوين في حروف "يرملون" سواء أكان بغنة أم بدونها حسب التفصيل السابق نوعان: ناقص وكامل.

فالناقص: هو إدغامها في الواو والياء، وسمي بذلك؛ لأنه غير مستكمل التشديد من أجل بقاء الغنة الموجودة في المدغم، فهي بمنزلة حرف الإطباق الموجود مع الإدغام في نحو: بسطت [المائدة: 28] كما سيأتي.

والكامل: هو إدغامهما في اللام والراء، وكذلك في النون والميم على الصحيح، وجمعها علماء الضبط في حروف "نرمل" وسمي كاملا؛ لأنه مستكمل التشديد لانعدام المدغم ذاتا وصفة، ففي إدغام نحو: من رسله [البقرة: 285] من مال الله [النور: 33] زال أثر المدغم بإبداله راء عند الراء وميما عند الميم، كما هو واضح من النطق، بخلاف نحو: إن يقولون [الكهف: 5] من وال [الرعد: 11] فإن صفة المدغم لا تزال موجودة وهي الغنة، ومن ثم يؤخذ أن الغنة إذا كانت للمدغم فالإدغام ناقص، وإذا كانت للمدغم فيه فالإدغام كامل، وهذا مقتضى كلام الجعبري كما ذكر صاحب إتحاف البشر، وسيأتي بسط الكلام على الإدغام الكامل والناقص معا في باب الإدغام، وقد أشار صاحب التحفة إلى حكم الإدغام هنا وحروفه وشرطه وقسميه بقوله - رضي الله عنه - فيها:


والثاني إدغام بستة أتت     في يرملون عندهم قد ثبتت
لكنها قسمان قسم يدغما     فيه بغنة بـ(ينمو) علما
إلا إذا كانا بكلمة فلا     تدغم كدنيا ثم صنوان تلا



[ ص: 167 ]

والثاني إدغام بغير غنة     في اللام والرا ثم كـررنـه



الكلام على الحكم الثالث "القلب" وكيفية أدائه ووجهه وضوابطه

من معاني القلب في اللغة التحويل، وفي الاصطلاح جعل حرف مكان آخر مع مراعاة الغنة والإخفاء في الحرف المقلوب، وله حرف واحد هو "الباء الموحدة" فإذا وقع بعد النون الساكنة - سواء أكان معها في كلمة أم في كلمتين - أم بعد التنوين - ولا يكون إلا من كلمتين كما هو مقرر - أم بعد نون التوكيد الخفيفة المتصلة بالفعل المضارع الشبيهة بالتنوين - وجب قلب النون الساكنة والتنوين ونون التوكيد ميما خالصة، لفظا لا خطا، مخفاة مع إظهار الغنة، وذلك نحو: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين [البقرة: 31] من بعدهم [الشورى: 14] والله عليم بذات الصدور [التغابن: 4] ونون التوكيد في قوله تعالى: لنسفعا بالناصية [العلق: 15] ولا ثاني لها في التنزيل بالنسبة للقلب، وسمي بالقلب لقلب النون الساكنة والتنوين ونون التوكيد الخفيفة ميما خالصة في اللفظ لا في الخط.

هذا، ولا يتحقق القلب إلا بثلاثة أعمال مأخوذة من التعريف، ومن الدليل الآتي بعد وهي كالآتي:

الأول: قلب النون الساكنة أو التنوين أو نون التوكيد الخفيفة ميما خالصة لفظا لا خطا تعويضا صحيحا، بحيث لا يبقى أثر بعد ذلك للنون الساكنة والمؤكدة والتنوين.

الثاني: إخفاء هذه الميم عند الباء.

الثالث: إظهار الغنة مع الإخفاء، والغنة هنا صفة الميم المقلوبة لا صفة النون والتنوين.

[ ص: 168 ] هذا، ونلفت نظر القارئ الكريم إلى شيء هنا يجب أن يراعيه حال أداء القلب، وهو أن يحترز عند التلفظ به من كز الشفتين على الميم المقلوبة؛ لئلا يتولد من كزهما غنة من الخيشوم ممططة، فليسكن الميم بتلطف من غير ثقل ولا تعسف، وكذلك الحكم بعينه في إخفاء الميم الساكنة قبل الباء نحو: فاحكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [المائدة: 48] على القول بالإخفاء كما سيأتي.

ووجه القلب: أنه لم يحسن الإظهار؛ لأنه يستلزم الإتيان بالغنة في النون والتنوين، ثم إطباق الشفتين من أجل النطق بالباء عقب الغنة، وفي كل هذا عسر وكلفة. وكذلك لم يحسن الإدغام لبعد المخرج وفقد السبب الموجب له. ولما لم يحسن الإظهار ولا الإدغام تعين الإخفاء، ثم توصل إليه بالقلب ميما لمشاركتها للباء مخرجا وللنون غنة.

وقد أشار العلامة الجمزوري في تحفته إلى حكم القلب بقوله فيها:


والثالث الإقلاب عند الباء     ميما بغنة مع الإخفاء

اهـ الكلام على الحكم الرابع "الإخفاء" ووجهه وضوابطه

من معاني الإخفاء في اللغة "الستر" وفي الاصطلاح هو عبارة عن النطق بحرف ساكن عار من الشديد على صفة بين الإظهار والإدغام، مع بقاء الغنة في الحرف الأول، وهو هنا النون الساكنة والتنوين، والميم الساكنة في الإخفاء الشفوي، وحروفه هنا خمسة عشر حرفا، وهي الباقية من الحروف الهجائية بعد إسقاط الحروف المتقدمة للأحكام الثلاثة السابقة، التي هي الإظهار والإدغام والقلب، وقد جمعها الجمزوري في تحفته في أوائل كلمات هذا البيت:

[ ص: 169 ]

صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما     دم طيبا زد تقى ضع ظالما



وهي الصاد المهملة، والذال المعجمة، والثاء المثلثة، والكاف، والجيم، والشين المعجمة، والقاف، والسين والدال والطاء المهملات والزاي، والفاء، والتاء المثناة فوق، والضاد المعجمة، والظاء المشالة.

فإذا وقع حرف من هذه الأحرف بعد النون الساكنة، سواء أكان متصلا بها في كلمتها أم منفصلا عنها، أو بعد التنوين - ولا يكون إلا من كلمتين كما هو مقرر - وجب إخفاؤهما، ويسمى إخفاء حقيقيا، فتسميته إخفاء؛ لإخفاء النون الساكنة والتنوين عند هذه الحروف، وتسميته حقيقيا؛ لأنه متحقق في النون الساكنة والتنوين أكثر من غيرهما.

وإليك الأمثلة للنون الساكنة من كلمة ومن كلمتين وللتنوين مع هذه الحروف:

فالصاد المهملة نحو: ولا هم ينصرون [البقرة: 86] أن صدوكم [المائدة: 2] ريحا صرصرا [القمر: 19].

والذال المعجمة نحو: لينذر [الأحقاف: 12] من ذكر [آل عمران : 195] سراعا ذلك [ق: 44].

والثاء المثلثة نحو: منثورا [الدهر: 19] أن ثبتناك [الإسراء: 74] [ ص: 170 ] أزواجا ثلاثة [الواقعة: 7].

والكاف نحو: أنكالا [المزمل: 12] من كل [المؤمنون: 27] ورزق كريم [النور: 26].

والجيم نحو: فأنجيناه [الشعراء: 119] من جاء [الأنعام: 160] قوما جبارين [المائدة: 22].

والشين المعجمة نحو: منشورا [الإسراء: 13] فمن شاء [الدهر: 29] والله على كل شيء شهيد [البروج: 29].

والقاف نحو: ينقذون [يس: 43] وإن قيل [النور: 28] إن الله عليم قدير [النحل: 70].

والسين المهملة نحو: ما ننسخ [البقرة: 106] من سيئاتكم [البقرة: 271] ورجلا سلما [الزمر: 29].

والدال المهملة نحو: وعنده [الأنعام: 59] ومن دخله [آل عمران : 97] مستقيم دينا [الأنعام: 161].

[ ص: 171 ] والطاء المهملة نحو: " انطلقوا " [المرسلات: 29 ، 30] فإن طلقها [البقرة: 230] صعيدا طيبا [النساء: 43].

والزاي نحو: أنـزل [الرعد: 17] من زوال [إبراهيم: 44] وطرا زوجناكها [الأحزاب: 37].

والفاء نحو: ينفقون [البقرة: 3] إن في صدورهم [غافر: 56] " على سفر فعدة " [البقرة: 184، 185].

والتاء المثناة فوق نحو: منتهون [المائدة: 91] إن تتوبا [التحريم: 4] زرعا تأكل [السجدة: 27].

والضاد المعجمة نحو: منضود [هود: 82] من ضر [المؤمنون: 75] وكلا ضربنا [الفرقان: 39].

والظاء المشالة نحو: فانظر [النمل: 14] إن ظنا [البقرة: 230] ظلا ظليلا [النساء: 57].

ووجه الإخفاء هنا أن النون الساكنة والتنوين لم يبعدا عن حروف الإخفاء كبعدهما عن حروف الحلق حتى يجب الإظهار، ولم يقربا منهن كقربهما من حروف الإدغام حتى يجب الإدغام، فلما عدم البعد الموجب للإظهار والقرب [ ص: 172 ] الموجب للإدغام أعطيا معهن حكما وسطا بين الإظهار والإدغام هو الإخفاء.

تنبيهات هامة بخصوص الإخفاء من حيث الأداء والكيفية والمراتب والفرق بينه وبين الإدغام..إلخ

الأول: النون الساكنة في حالة الإخفاء لا تخلو من أن يقع قبلها ضمة نحو: كنتم [البقرة: 23] أو كسرة نحو: منكم [مريم: 71] أو فتحة نحو: عنكم [الأنفال: 11] فليحذر القارئ من إشباع هذه الحركات حتى لا يتولد من الضمة واو، ومن الكسرة ياء، ومن الفتحة ألف، فيصير اللفظ (كونتم ومينكم وعانكم) وكثيرا ما يقع هذا من بعض القراء المتعسفين، وهو خطأ قبيح، وتحريف صريح، وزيادة في كلام الله تعالى.

الثاني: من الخطإ في الإخفاء أيضا إلصاق اللسان في الثنايا العليا عند إخفاء النون الساكنة والتنوين؛ إذ ينشأ عن ذلك النطق بالنون ساكنة مظهرة مصحوبة بغنة، فيخرج القارئ بذلك عن الإخفاء المقصود، وما سمي الإخفاء إخفاء إلا لإخفاء النون الساكنة والتنوين عند الحروف الخاصة به، وكيفيته - كما صرح به غير واحد من أئمتنا كالحافظ القسطلاني - أن يكون هنالك تجاف بين اللسان والثنايا العليا، أو بعبارة أخرى أن يجعل القارئ لسانه بعيدا عن مخرج النون قليلا، فيقع الإخفاء الصحيح المقصود، ويتأكد ذلك عند الطاء والدال المهملتان والتاء المثناة فوق، وكذلك الضاد المعجمة.

الثالث: مما يجب معرفته أن الفرق بين الإدغام والإخفاء هو أن الإدغام يصحبه التشديد، وأن الإخفاء غير مصحوب به، ويكون عند الحروف لا فيها، بخلاف الإدغام فهو في الحروف لا عندها، يقال: أخفيت النون عند الكاف لا فيها، وأدغمتها في الراء لا عندها.

الرابع: إخفاء النون الساكنة والتنوين عند الحروف الخمسة عشر ليس في مرتبة واحدة، بل متفاوت في القوة، وذلك على قدر قرب حروف الإخفاء من النون [ ص: 173 ] والتنوين وبعدهن عنهما في المخرج، فكلما قربا من حروف الإخفاء كان إخفاؤهما عند هذا الحرف أزيد مما بعد عنه، وبذلك يكون الإخفاء على ثلاث مراتب:

أقواها: عند الطاء والدال المهملتين والتاء المثناة فوق، أي أن الإخفاء عند هذه الحروف يكون قريبا من الإدغام، وذلك لقربهن من النون والتنوين في المخرج.

وأدناها عند القاف والكاف، أي أن الإخفاء عند هذين الحرفين يكون قريبا من الإظهار، وذلك لبعدهما عن النون والتنوين في المخرج.

وأوسطها عند الحروف العشرة الباقية، أي أن الإخفاء عند هذه الحروف يكون متوسطا، فليس قريبا من الإدغام كما في المرتبة الأولى، ولا من الإظهار كما في المرتبة الثانية، وذلك لتوسطها في القرب والبعد من النون والتنوين في المخرج.

وأما الغنة في الإخفاء في جميع أحواله السابقة فلا تفاوت فيها على التحقيق، فهي لا تزيد ولا تنقص عن مقدار حركتين كالمد الطبيعي، كما سيوقف على ذلك قريبا.

الخامس: كل ما جاء في هذا الباب من الأحكام الأربعة إن كان في كلمة فالحكم فيه عام في الوصل والوقف، وإن كان في كلمتين فالحكم فيه خاص بالوصل فقط، هذا بالنسبة للنون، أما بالنسبة للتنوين فالحكم فيه خاص بالوصل لا غير؛ لأنه لا يكون إلا من كلمتين كما هو مقرر، فتأمل.

وقد أشار صاحب التحفة إلى حكم الإخفاء هنا وحروفه الخمسة عشر بقوله رحمه الله:


والرابع الإخفاء عند الفاضل     من الحروف واجب للفاضل
في خمسة من بعد عشر رمزها     في كلم هذا البيت قد ضمنتها
صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما     دم طيبا زد في تقى ضع ظالما

اهـ

كما أشار الحافظ ابن الجزري إلى الأحكام الأربعة كلها في المقدمة الجزرية [ ص: 174 ] بقوله رضي الله عنه:


فعند حرف الحلق أظهر وادغم     في اللام والرا لا بغنة لزم
وأدغمن بغنة في يومن     إلا بكلمة كدنيا عنونوا
والقلب عند البا بغنة كذا     لاخفا لدى باقي الحروف أخذا

اهـ والله تعالى أعلى وأعلم وأعز وأكرم.

التالي السابق


الخدمات العلمية