الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 45 ] الفصل الرابع

في ذكر مبادئ علم التجويد

ينبغي لكل من شرع في فن من الفنون أن يعرف مبادئه العشرة المشهورة؛ ليكون على بصيرة في المشروع فيه، وحيث إن رسالتنا هذه خاصة بعلم التجويد فينبغي أن نتكلم على تلك المبادئ العشرة الخاصة به؛ ليكون الطالب على علم بها، فنقول وبالله التوفيق ومنه نستمد العون والقول:

الأول: حده: التجويد مصدر جود تجويدا، والاسم منه الجودة، ضد الرداءة، وهو في اللغة التحسين، يقال: جود الرجل الشيء إذا أتى به جيدا، ويستوي في ذلك القول والفعل.

ويقال لقارئ القرآن الكريم المحسن لتلاوته: "مجود" بكسر الواو إذا أتى بالقراءة مجودة - بفتح الواو - الألفاظ بريئة من الجور والتحريف حال النطق بها.

وفي الاصطلاح: إخراج كل حرف من مخرجه وإعطاؤه حقه ومستحقه - بفتح الحاء - من الصفات.

فحق الحرف من الصفات، أي الصفات اللازمة الثابتة التي لا تنفك عنه بحال، كالجهر، والشدة، والاستعلاء، والاستفال، والإطباق، والقلقلة، إلى غير ذلك مما سنذكره مبسوطا في موضعه.

ومستحقه: أي من الصفات العارضة التي تعرض له في بعض الأحوال وتنفك عنه في البعض الآخر لسبب من الأسباب كالترقيق والتفخيم، فإن الأول ناشئ عن صفة الاستفال والثاني ناشئ عن صفة الاستعلاء، وكالإظهار والإدغام والإخفاء [ ص: 46 ] والمد والقصر، إلى غير ذلك مما سيأتي مفصلا، مشروطا بشروطه في محله إن شاء الله تعالى.

الثاني: موضوعه: هو الكلمات القرآنية من حيث إعطاء حروفها حقها ومستحقها - كما مر - من غير تكلف ولا تعسف في النطق مما يخرج بها عن القواعد المجمع عليها.

وزاد بعض أئمتنا الحديث الشريف؛ إذ يرى تطبيق قواعد التجويد في قراءته، والجمهور على أن موضوع التجويد هو القرآن الكريم فقط.

الثالث: ثمرته: هي صون اللسان عن اللحن في لفظ القرآن الكريم حال الأداء، وكذلك الحديث الشريف عند من رأى ذلك، وقد تقدم ما عليه الجمهور في هذا الشأن.

الرابع: فضله: هو من أشرف العلوم وأفضلها لتعلقه بكلام الله تعالى.

الخامس: نسبته من العلوم: هو أحد العلوم الشرعية المتعلقة بالقرآن الكريم.

السادس: واضعه: أما الواضع له من الناحية العملية فهو سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه نزل عليه القرآن من عند الله تعالى مجودا، وتلقاه صلوات الله وسلامه عليه من الأمين جبريل - عليه السلام - كذلك، وتلقته عنه الصحابة، وسمعته من فيه الشريف كذلك، وتلقاه من الصحابة التابعون كذلك، وهكذا إلى أن وصل إلينا عن طريق شيوخنا متواترا، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو معاند.

وأما الواضع له من ناحية قواعده وقضاياه العلمية ففيه خلاف، فقيل: أبو الأسود الدؤلي . وقيل: أبو عبيد القاسم بن سلام . وقيل: الخليل بن أحمد . وقيل: غير هؤلاء من أئمة القراءة واللغة.

السابع: اسمه: علم التجويد.

الثامن: استمداده: جاء من كيفية قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ثم [ ص: 47 ] من كيفية قراءة الصحابة من بعده والتابعين وأتباعهم وأئمة القراءة إلى أن وصل إلينا بالتواتر عن طريق شيوخنا.

التاسع: حكم الشارع فيه هو الوجوب العيني على كل مكلف من مسلم ومسلمة يحفظان القرآن كله أو بعضه ولو سورة واحدة لثبوت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

أما الكتاب: فقوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا [المزمل: 4] أي اتله على تؤدة وطمأنينة وخشوع وتدبر، مع مراعاة قواعد التجويد من مد الممدود، وقصر المقصور، وإظهار المظهر، وإدغام المدغم، وإخفاء المخفي، إلى غير ذلك مما سيأتي مبسوطا في مواضعه.

وقد أخبر غير واحد من أئمتنا أنه صح عن سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في قوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا [المزمل: 4] "الترتيل هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف" اهـ.

وإذا تأملنا في الآية الكريمة نجد أن الله تبارك وتعالى لم يقتصر على الأمر بالفعل في قوله عز شأنه: ورتل [المزمل: 4] بل أكده بمصدر مؤكد للأمر وهو قوله سبحانه: ترتيلا [المزمل: 4] وهذا مما يفيد الاهتمام بشأنه، والترغيب في ثوابه، والعمل به.

هذا: والأمر في هذه الآية للوجوب كما هو الأصل في الأمر إلا أن تكون [ ص: 48 ] قرينة تصرفه عن هذا الوجوب إلى غيره من المعاني كالندب أو الإباحة أو التهديد ... إلخ، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب إلى غيره مما ذكر ونحوه، فبقي على الأصل وهو الوجوب، فتأمل.

وما الأمر بالترتيل هنا إلا لأن الترتيل صفة تكلم الله بالقرآن، كما قال سبحانه وتعالى: ورتلناه ترتيلا [الفرقان: 23] وناهيك بهذا شرفا وجلالا.

وأما السنة: فكثيرة، منها ما خرجه الحافظ السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور، وعزاه للطبراني في الأوسط، وابن مردويه ، وسعيد بن منصور ، من حديث موسى بن يزيد الكندي - رضي الله عنه - قال: " كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرئ رجلا، فقرأ الرجل: إنما الصدقات للفقراء والمساكين [التوبة: 60] مرسلة، فقال ابن مسعود : ما هكذا أقرأنيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: وكيف أقرأكها؟ قال: أقرأنيها: إنما الصدقات للفقراء والمساكين [التوبة: 60] فمدها اهـ.

فابن مسعود الذي هو أشبه الناس سمتا ودلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الرجل أن يقرأ كلمة "الفقراء" من غير مد، ولم يرخص له في تركه، مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة ومعناها، ولكن لأن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه - واستفاض النقل عنه بذلك; أنكر ابن مسعود - رضي الله عنه - على الرجل أن يقرأ بغير قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أقرأ بها أصحابه - رضي الله عنهم جميعا - فدل ذلك على وجوب تعلم التجويد، واتباع أحكامه عند التلاوة ؛ لدلالة مثل هذا النص بالجزء على الكل.

وسيأتي لهذا الحديث مزيد تفصيل في "باب المد والقصر" من هذا الكتاب، إن شاء العزيز الوهاب سبحانه وتعالى، وهناك سنشير إلى تخريجه مستوفى.

وأما إجماع الأمة: فقد قال العلامة الشيخ محمد مكي نصر في نهاية القول المفيد ما نصه: فقد اجتمعت الأمة المعصومة من الخطأ على وجوب التجويد من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا، ولم يختلف فيه أحد منهم، وهذا من أقوى الحجج، اهـ منه بلفظه ص (10) .

العاشر: مسائله: وهي قواعده كقولنا: كل نون ساكنة وقع بعدها حرف من [ ص: 49 ] حروف الحلق يجب إظهارها، ويسمى إظهارا حلقيا، وكل حرف مد وقع بعده ساكن أصلي وصلا ووقفا يمد مدا طويلا، ويسمى مدا لازما، وهكذا.

وقد أشار إلى ما قدمنا في هذا الفصل الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية بقوله:


والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم     لأنه به الإله أنزلا
وهكذا منه إلينا وصلا     وهو أيضا حلية التلاوة
وزينة الأداء والقراءة     وهو إعطاء الحروف حقها
من صفة لها ومستحقها     ورد كل واحد لأصله
واللفظ في نظيره كمثله     مكملا من غير ما تكلف
باللطف في النطق بلا تعسف     وليس بينه وبين تركه
إلا رياضة امرئ بفكه

اهـ

التالي السابق


الخدمات العلمية