الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء كيف النهوض من السجود

                                                                                                          287 حدثنا علي بن حجر أخبرنا هشيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث الليثي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فكان إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالسا قال أبو عيسى حديث مالك بن الحويرث حديث حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم وبه يقول إسحق وبعض أصحابنا ومالك يكنى أبا سليمان

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب كيف النهوض من السجود ) قوله : ( إذا كان في وتر من صلاته ) أي في الركعة الأولى والثالثة ( لم ينهض ) أي لم يقم ( حتى يستوي جالسا ) وهذه الجلسة تسمى بجلسة الاستراحة : قال الحافظ في الفتح : وفيه مشروعية جلسة الاستراحة ، وأخذ بها الشافعي وطائفة من أهل الحديث ، وعن أحمد روايتان ، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها ، ولم يستحبهما الأكثر ، انتهى كلامه .

                                                                                                          واستدل من قال بسنية جلسة الاستراحة بحديث الباب ، وهو حديث صحيح ، وبأحاديث أخرى ، فمنها حديث أبي حميد الساعدي ، أنه قال في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . أنا أعلمكم [ ص: 144 ] بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا فاعرض ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه الحديث ، وفيه : ثم يهوي إلى الأرض ساجدا فيجافي يديه عن جنبيه ويفتح أصابع رجليه ، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلا ، ثم يسجد ، ثم يقول : الله أكبر ، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ، ثم ينهض ، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك إلخ ، رواه أبو داود والدارمي ، وروى الترمذي وابن ماجه معناه ، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، كذا في مشكاة المصابيح . ولفظ الترمذي هكذا : ثم هوى إلى الأرض ساجدا ، ثم قال الله أكبر ، ثم جافى عضديه عن إبطيه وفتح أصابع رجليه ، ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ، ثم نهض ، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك إلخ .

                                                                                                          ومنها حديث ابن عباس في صلاة التسبيح رواه أبو داود وآخرون وفيه : ثم تهوي ساجدا فتقولها وأنت ساجد عشرا ، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا ، ثم تسجد فتقولها عشرا ، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا ، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة . تفعل ذلك في أربع ركعات الحديث . قال الفاضل اللكنوي في كتابه الآثار المرفوعة بعد كلام طويل في إثبات صلاة الصبح ما لفظه : اعلم أن أكثر أصحابنا الحنفية وكثيرا من المشايخ الصوفية قد ذكروا في كيفية صلاة التسبيح الكيفية التي حكاها الترمذي والحاكم عن عبد الله بن المبارك الخالية عن جلسة الاستراحة ، والشافعية والمحدثون أكثرهم اختاروا الكيفية المشتملة على جلسة الاستراحة ، وقد علم مما أسلفنا أن الأصح ثبوتا هو هذه الكيفية ، فليأخذ بها من يصليها حنفيا كان أو شافعيا ، انتهى . قلت : الأمر كما قال .

                                                                                                          تنبيه : قد اعتذر الحنفية وغيرهم ممن لم يقل بجلسة الاستراحة عن العمل بحديث مالك بن الحويرث المذكور في الباب بأعذار كلها باردة ، فمنها ما قال صاحب الهداية من الحنفية : إنه محمول على حال الكبر ورده صاحب بحر الرائق حيث قال : يرد عليه بأن هذا الحمل يحتاج إلى دليل ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : صلوا كما رأيتموني أصلي ، انتهى . وقال الحافظ ابن حجر في الدراية : هذا تأويل يحتاج إلى دليل ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه : صلوا كما رأيتموني أصلي ، ولم يفصل له فالحديث حجة في الاقتداء به في ذلك ، انتهى .

                                                                                                          ومنها ما قال الطحاوي : من أن حديث أبي حميد الساعدي خال عنها أي عن جلسة الاستراحة ، فإنه ساقه بلفظ : قام ولم يتورك ، قال : فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث [ ص: 145 ] مالك بن الحويرث لعلة كانت به فقعد لأجلها لا أن ذلك من سنة الصلاة ، انتهى . وفيه أن الأصل عدم العلة ، وأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث : صلوا كما رأيتموني أصلي ، فحكاياته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلة تحت هذا الأمر ، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة ، بل أخرجه أبو داود من وجه آخر بإثباتها كذا في فتح الباري . قلت : وكذلك أخرجه الترمذي بإثباتها كما تقدم .

                                                                                                          ومنها أنها لو كانت سنة لشرع لها ذكر مخصوص . وفيه أنها جلسة خفيفة جدا استغني فيها بالتكبير المشروع للقيام ، فإنها من جملة النهوض إلى القيام .

                                                                                                          ومنها أنها لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم : وفيه أن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته صلى الله عليه وسلم إنما أخذ مجموعها من مجموعهم .

                                                                                                          والحاصل أن حديث مالك بن الحويرث حجة قوية لمن قال بسنية جلسة الاستراحة وهو الحق ، والأعذار التي ذكرها الحنفية وغيرهم لا يليق أن يلتفت إليها .

                                                                                                          قوله : ( حديث مالك بن الحويرث حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة إلا مسلما وابن ماجه .

                                                                                                          قوله : ( والعمل عليه عند بعض أهل العلم ) وبه قال الشافعي وطائفة من أهل الحديث ، وإلى القول بها رجع أحمد كما تقدم .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أنه قد ثبت أن الإمام أحمد رجع عن القول بترك جلسة الاستراحة إلى القول بها . قال ابن قدامة في المغني : واختلفت الرواية عن أحمد هل يجلس للاستراحة ، فروي عنه لا يجلس وهو اختيار الخرقي ، والرواية الثانية أنه يجلس واختارها الخلال ، قال الخلال : رجع أبو عبد الله إلى هذا يعني ترك قوله بترك الجلوس لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض متفق عليه ، وذكره أيضا أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث حسن صحيح فيتعين العمل به والمصير إليه ، انتهى .

                                                                                                          وكذلك في الشرح الكبير على متن المقنع لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن المقدسي وفيه : والثانية أنه يجلس ، اختارها الخلال ، قال الخلال : رجع أبو عبد الله عن قوله بترك الجلوس . وقال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد : قال الخلال : رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة ، انتهى . وكذلك [ ص: 146 ] في كثير من كتب الحنابلة وغيرهم . ففي رجوع الإمام أحمد عن القول بترك جلسة الاستراحة إلى القول بها لا شك فيه ، وقد نقل بعض الحنفية في تعليقاته على الترمذي رجوعه عن الحافظ ابن حجر ، وعن ابن القيم ، ثم قال : وظني أن أحمد لم يرجع ، انتهى . قلت : مبنى ظنه هذا ومنشؤه ليس إلا التقليد ، فإنه إذا تمكن في قلب ورسخ فيه ينشأ منه كذلك ظنون فاسدة ( وبه يقول أصحابنا ) يعني أصحاب الحديث ، وقد تقدم في المقدمة أن الترمذي رحمه الله إذا قال : أصحابنا ، يريد بهم أصحاب الحديث .




                                                                                                          الخدمات العلمية