الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر من توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جرير الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهو جرير بن الخطفى ويقال : جرير بن عطية بن الخطفى . واسم الخطفى حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ، أبو حزرة الشاعر البصري ، قدم دمشق مرارا ، وامتدح يزيد بن معاوية والخلفاء من بعده ، ووفد على عمر بن عبد العزيز وكان في عصره من الشعراء الذين يقارنون الفرزدق ، والأخطل ، وكان جرير أشعرهم وأخيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال غير واحد : هو أشعر الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن دريد ، ثنا الأشنانداني ، ثنا التوزي ، عن أبي عبيدة ، عن عثمان البتي ، قال : رأيت جريرا وما تضم شفتاه من التسبيح ، فقلت : وما ينفعك هذا [ ص: 42 ] وأنت تقذف المحصنة ؟ ! فقال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] ، وعد من الله حق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال : دخل رجل من بني عذرة على عبد الملك بن مروان يمتدحه بقصيدة ، وعنده الشعراء الثلاثة جرير ، والفرزدق ، والأخطل فلم يعرفهم الأعرابي ، فقال عبد الملك للأعرابي : هل تعرف أهجى بيت في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : أحسنت ، فهل تعرف أمدح بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : أصبت وأحسنت ، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام ؟ قال : نعم ، قول جرير :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن العيون التي في طرفها مرض     قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به     وهن أضعف خلق الله أركانا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : أحسنت ، فهل تعرف جريرا ؟ قال : لا والله وإني إلى رؤيته لمشتاق . قال : فهذا جرير وهذا الأخطل وهذا الفرزدق . فأنشأ الأعرابي [ ص: 43 ] يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فحيا الإله أبا حرزة     وأرغم أنفك يا أخطل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجد الفرزدق أتعس به     ودق خياشيمه الجندل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأنشأ الفرزدق يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أرغم الله أنفا أنت حامله     يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما أنت بالحكم الترضى حكومته     ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أنشأ الأخطل يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا شر من حملت ساق على قدم     ما مثل قولك في الأقوام يحتمل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الحكومة ليست في أبيك ولا     في معشر أنت منهم إنهم سفل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقام جرير مغضبا وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شتمتما قائلا بالحق مهتديا     عند الخليفة والأقوال تنتضل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أتشتمان سفاها خيركم حسبا     ففيكما وإلهي الزور والخطل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شتمتماه على رفعي ووضعكما     لا زلتما في سفال أيها السفل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم وثب جرير فقبل رأس الأعرابي ، وقال : يا أمير المؤمنين ، جائزتي له . وكانت خمسة عشر ألفا ، فقال عبد الملك : وله مثلها من مالي . فقبض الأعرابي ذلك كله ، وخرج .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 44 ] وحكى يعقوب بن السكيت أن جريرا دخل على عبد الملك مع وفد أهل العراق من جهة الحجاج فأنشده مديحه الذي يقول فيه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطون راح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأطلق له مائة ناقة وثمانية من الرعاة ; أربعة من النوبة ، وأربعة من السبي الذين قدم بهم من الصغد . قال جرير وبين يدي عبد الملك جامات من فضة قد أهديت له ، وهو لا يعبأ بها شيئا ، فهو يقرعها بقضيب في يده فقلت : يا أمير المؤمنين المحلب ، فألقى إلي واحدة من تلك الجامات ، ولما رجع إلى الحجاج أعجبه إكرام أمير المؤمنين له ، فأطلق له خمسين ناقة تحمل طعاما لأهله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الأخطل فقال بشر لجرير : أتعرف هذا ؟ قال : لا ، ومن هذا أيها الأمير ؟ فقال : هذا الأخطل . فقال الأخطل : أنا الذي شتمت عرضك ، وأسهرت ليلك ، وآذيت قومك . فقال جرير : أما قولك : شتمت عرضك . فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه ، وأما قولك : وأسهرت ليلك . فلو تركتني أنام لكان خيرا لك ، وأما قولك : وآذيت قومك . فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم ؟ ! وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة ، قبحه الله وأبعد مثواه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 45 ] وقال الهيثم بن عدي ، عن عوانة بن الحكم قال : لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم ، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم ، فمر بهم رجاء بن حيوة فقال له جرير :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرجل المرخي عمامته     هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا ، فمر بهم عدي بن أرطاة فقال له جرير منشدا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الراكب المزجي مطيته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه     أني لدى الباب كالمصفود في قرن
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة     قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال : يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك ، وسهامهم مسمومة ، وأقوالهم نافذة . فقال : ويحك يا عدي ! مالي وللشعراء . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه ، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه ، فأعطاه حلة . فقال له عمر : أتروي منها شيئا ؟ قال : نعم . فأنشده :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأيتك يا خير البرية كلها     نشرت كتابا جاء بالحق معلما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 46 ] شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا     عن الحق لما أصبح الحق مظلما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ونورت بالبرهان أمرا مدلسا     وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمن مبلغ عني النبي محمدا     وكل امرئ يجزى بما كان قدما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه     وكان قديما ركنه قد تهدما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تعالى علوا فوق عرش إلهنا     وكان مكان الله أعلى وأعظما

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال عمر : ويحك يا عدي ! من بالباب منهم ؟ فقال : عمر بن أبي ربيعة فقال : أليس هو الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم نبهتها فهبت كعابا     طفلة ما تبين رجع الكلام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ساعة ثم إنها بعد قالت     ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أعلى غير موعد جئت تسري     تتخطى إلى رءوس النيام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما تجشمت ما تريد من الأم     ر ولا جئت طارقا لخصام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو كان عدو الله إذ فجر كتم وستر على نفسه ! لا يدخل علي والله أبدا . فمن بالباب سواه ؟ قال : همام بن غالب - يعني الفرزدق - فقال عمر : أوليس هو الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هما دلتاني من ثمانين قامة     كما انقض باز أقتم الريش كاسره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا     أحي يرجى أم قتيل نحاذره

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا يطأ والله بساطي وهو كاذب . فمن سواه بالباب ؟ قال : الأخطل . قال : [ ص: 47 ] أوليس هو الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولست بصائم رمضان طوعا     ولست بآكل لحم الأضاحي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولست بزاجر عنسا بكورا     إلى بطحاء مكة للنجاح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولست بزائر بيتا بعيدا     بمكة أبتغي فيه صلاحي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولست بقائم كالعير أدعو     قبيل الصبح حي على الفلاح
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولكني سأشربها شمولا     وأسجد عند منبلج الصباح

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا . فهل بالباب سوى من ذكرت ؟ قال : نعم ، الأحوص قال : أليس هو الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الله بيني وبين سيدها     يفر مني بها وأتبعه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما هو دون من ذكرت ، فمن هاهنا غيره ؟ قال : جميل بن معمر . قال : الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت     يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فما أنا في طول الحياة براغب     إذا قيل قد سوي عليها صفيحها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بذلك صالحا ! والله لا يدخل علي أبدا ، فهل بالباب أحد سوى ذلك ؟ قال : نعم جرير قال : أما إنه [ ص: 84 ] الذي يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      طرقتك صائدة القلوب وليس ذا     حين الزيارة فارجعي بسلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن كان لا بد فأذن لجرير . فأذن له فدخل وهو يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الذي بعث النبي محمدا     جعل الخلافة للإمام العادل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسع الخلائق عدله ووفاؤه     حتى ارعوى وأقام ميل المائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إني لأرجو منك خيرا عاجلا     والنفس مولعة بحب العاجل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال له عمر : ويحك يا جرير ! اتق الله فيما تقول . ثم إن جريرا استأذن عمر في الإنشاد فلم يأذن له ولم ينهه ، فأنشده قصيدة طويلة يمدحه بها ، فقال له : ويحك يا جرير ! لا أرى لك فيها هاهنا حقا . فقال : إني مسكين وابن سبيل . فقال إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا نملك إلا ثلاثمائة درهم ، أخذت أم عبد الله مائة ، وابنها مائة ، وقد بقيت مائة . فأمر له بها ، ثم خرج على الشعراء ، فقالوا : ما وراءك يا جرير ؟ فقال : ما يسوءكم ، خرجت من عند أمير المؤمنين ، وهو يعطي الفقراء ، ويمنع الشعراء وإني عنه لراض . ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رأيت رقى الشيطان لا تستفزه     وقد كان شيطاني من الجن راقيا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم فيما حكاه المعافى بن زكريا الجريري : قالت جارية للحجاج بن يوسف في جرير : إنك تدخل هذا علينا . فقال : إنه ما علمت [ إلا ] عفيفا . [ ص: 49 ] فقالت : أما إنك لو أخليتني وإياه سترى ما يصنع . فأمر بإخلائها مع جرير في مكان يراهما ولا يشعر جرير بشيء ، من ذلك فقالت له : يا جرير فأطرق رأسه وقال : ها أنا ذا . فقالت : أنشدني من قولك كذا وكذا . لشعر فيه رقة وتحنن . فقال : لست أحفظه ، ولكن أحفظ كذا وكذا . ويعرض عن ذاك ، وينشدها شعرا في مدح الحجاج فقالت : لست أسألك عن هذا ، إنما أريد كذا وكذا . فيعرض عن ذلك ، وينشدها في مدح الحجاج حتى انقضى المجلس ، فقال الحجاج : لله درك ، أبيت إلا كرما وتكرما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عكرمة : أنشدت أعرابيا بيتا لجرير الخطفى :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبدل الليل لا تجري كواكبه     أو طال حتى حسبت النجم حيرانا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال الأعرابي : إن هذا حسن في معناه ، وأعوذ بالله من مثله ، ولكني أنشدك في ضده من قولي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وليل لم يقصره رقاد     وقصره لنا وصل الحبيب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      نعيم الحب أورق فيه حتى     تناولنا جناه من قريب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بمجلس لذة لم نقف فيه     على شكوى ولا عيب الذنوب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فحلنا أن نقطعه بلفظ     فترجمت العيون عن القلوب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقلت له : زدني . قال : أما من هذا فحسبك ، ولكن أنشدك غيره . فأنشدني :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنت إذا عقدت حبال قوم     صحبتهم وشيمتي الوفاء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 50 ] فأحسن حين يحسن محسنوهم     وأجتنب الإساءة إن أساءوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أشاء سوى مشيئتهم فآتي     مشيئتهم وأترك ما أشاء



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور ، وأفخر بيت قاله جرير :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا غضبت عليك بنو تميم     حسبت الناس كلهم غضابا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقد سأله رجل : من أشعر الناس ؟ فأخذ بيده وأدخله على أبيه ، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز ، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته ، فقال جرير للذي سأله : أتبصر هذا ؟ قال : نعم . قال : أتعرفه ؟ قال : لا . قال : هذا أبي ، وإنما يشرب من ضرع العنز ; لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا ، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان بين جرير ، والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها ، وقد مات في سنة عشر ومائة . قاله خليفة بن خياط وغير واحد ، قال خليفة : مات الفرزدق ، وجرير بعده بأشهر . وقال الصولي : ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة ، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكديمي عن الأصمعي عن أبيه قال : رأى رجل جريرا في المنام [ ص: 51 ] بعد موته ، فقال له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي . فقيل : بماذا ؟ قال : بتكبيرة كبرتها بالبادية . قيل له : فما فعل الفرزدق ؟ قال : أيهات ، أهلكه قذف المحصنات . قال الأصمعي : لم يدعه في الحياة ولا في الممات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الفرزدق :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فاسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة ، أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق ، وجده صعصعة بن ناجية صحابي ، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحيي الموءودة في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حدث الفرزدق ، عن علي أنه وفد مع أبيه عليه ، فقال : من هذا ؟ قال : ابني وهو شاعر . قال : علمه القرآن فهو خير له من الشعر . وسمع الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة ، وأبا سعيد الخدري ، وعرفجة بن أسعد ، وزرارة بن كرب ، والطرماح بن عدي الشاعر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى عنه خالد الحذاء ، ومروان الأصفر ، وحجاج بن حجاج الأحول [ ص: 52 ] وجماعة ، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحتات ، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه هشام ولم يصح ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أشعث بن عبد الملك عن الفرزدق قال : نظر أبو هريرة إلى قدمي فقال : يا فرزدق إني أرى قدميك صغيرتين ، فاطلب لهما موضعا في الجنة . فقلت : إن ذنوبي كثيرة . فقال : لا تأيس ; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بالمغرب بابا مفتوحا للتوبة ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال : دخلت على الفرزدق فتحرك ، فإذا في رجله قيد ، فقلت : ما هذا؟ ! فقال : حلفت أن لا أنزعه حتى أحفظ القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت بدويا أقام بالحضر إلا فسد لسانه إلا رؤبة بن العجاج ، والفرزدق ، فإنهما زادا على طول الإقامة جدة وحدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال راويته أبو شفقل : طلق الفرزدق امرأته النوار ثلاثا ، ثم جاء فأشهد على ذلك الحسن البصري ثم ندم على طلاقها وإشهاده الحسن على [ ص: 53 ] ذلك ، فأنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ندمت ندامة الكسعي لما     غدت مني مطلقة نوار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت جنتي فخرجت منها     كآدم حين أخرجه الضرار
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلو أني ملكت يدي وقلبي     لكان علي للقدر الخيار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأصمعي وغير واحد : لما ماتت النوار بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي امرأة الفرزدق وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري فشهدها أعيان أهل البصرة والحسن على بغلته والفرزدق على بعيره فسارا ، فقال الحسن ، للفرزدق : ماذا يقول الناس ؟ قال : يقولون : شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس . يعنونك ، و : شر الناس . يعنوني . فقال له : يا أبا فراس لست بخير الناس ، ولست بشر الناس . ثم قال له الحسن : ما أعددت لهذا اليوم ؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، منذ ثمانين سنة . فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها لدفنها ، فأنشأ الفرزدق يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أخاف وراء القبر إن لم يعافني     أشد من القبر التهابا وأضيقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا جاءني يوم القيامة قائد     عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لقد خاب من أولاد آدم من مشى     إلى النار مغلول القلادة أزرقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يساق إلى نار الجحيم مسربلا     سرابيل قطران لباسا مخرقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 54 ] إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم     يذوبون من حر الصديد تمزقا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : فبكى الحسن حتى بل الثرى ، ثم التزم الفرزدق وقال : لقد كنت من أبغض الناس إلي ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال له بعضهم : ألا تخاف من الله في قذف المحصنات ؟ فقال : والله لله أحب إلي من عيني اللتين أبصر بهما ، فكيف يعذبني ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أنه مات سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما . وقيل : بأشهر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما الحسن ، وابن سيرين فقد ذكرنا ترجمة كل منهما مبسوطة في كتابنا " التكميل " . وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فأما الحسن بن أبي الحسن

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واسمه يسار ، أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت ويقال : مولى جابر بن عبد الله . وقيل غير ذلك ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة كانت تخدمها ، فربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع ، فتشاغله أم سلمة بثديها ، فيدر عليه فيرتضع منها ، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن من بركة تلك الرضاعة من الثدي المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له ، وكان في جملة من يدعو له عمر بن الخطاب قال : اللهم فقهه [ ص: 55 ] في الدين ، وحببه إلى الناس .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسئل مرة أنس بن مالك عن مسألة فقال : سلوا عنها مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن مرة : إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن ، وابن سيرين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال قتادة : ما جالست رجلا فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه . وقال أيضا : ما رأت عيناي أفقه من الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيوب : كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن مسألة ; هيبة له .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشعبي لرجل يريد قدوم البصرة : إذا نظرت إلى رجل أجمل أهل البصرة وأهيبهم فهو الحسن فأقرئه مني السلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال يونس بن عبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به ، وإن لم يسمع كلامه ولم ير عمله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 56 ] وقال الأعمش : ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها ، وكان أبو جعفر إذا ذكره يقول : ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن سعد : قالوا : كان الحسن جامعا للعلم والعمل ، عالما رفيعا فقيها ، ثقة مأمونا ، عابدا ناسكا ، كثير العلم والعمل ، فصيحا جميلا وسيما ، وقدم مكة فأجلس على سرير ، واجتمع الناس إليه ، فحدثهم . وكان فيهم مجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن شعيب فقالوا : لم نر مثل هذا قط .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أهل التاريخ : مات الحسن عن ثمان وثمانين سنة عام عشر ومائة ، في مستهل رجب منها ، بينه وبين محمد بن سيرين مائة يوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما ابن سيرين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهو محمد بن سيرين أبو بكر بن أبي عمرة الأنصاري مولى أنس بن مالك النضري كان أبو محمد من سبي عين التمر ، أسره خالد بن الوليد في جملة السبي ، فاشتراه أنس ثم كاتبه ، ثم ولد له من الأولاد الأخيار جماعة ؛ محمد هذا ، وأنس بن سيرين ، ومعبد ، ويحيى ، وحفصة ، وكريمة وكلهم تابعيون ثقاة أجلاء ، رحمهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال البخاري : ولد محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 57 ] وقال هشام بن حسان : هو أصدق من أدركت من البشر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن سعد : كان ثقة مأمونا ، عالما رفيعا ، فقيها إماما ، كثير العلم ورعا ، وكان به صمم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال مورق العجلي : ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ، وأورع في فقهه منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عون : كان محمد بن سيرين أرجى الناس لهذه الأمة ، وأشد الناس إزراء على نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عون : لم أر في الدنيا مثل ثلاثة محمد بن سيرين بالعراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام وكانوا يأتون بالحديث على حروفه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الشعبي يقول : عليكم بذاك الأصم . يعني محمد بن سيرين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن شوذب : ما رأيت أحدا أجرأ على الرؤيا منه ، ولا أجبن عن فتيا منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال عثمان البتي : لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 58 ] قالوا : ومات في تاسع شوال من هذه السنة بعد الحسن بمائة يوم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي وهب بن منبه اليماني وهو تابعي جليل ، وله معرفة بكتب الأوائل ، وهو يشبه كعب الأحبار وكان له صلاح وعبادة ، ويروى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ ، وقد بسطنا ترجمته في كتابنا " التكميل " ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الواقدي : توفي بصنعاء سنة عشر ومائة ، وقال غيره : بعدها بسنة . وقيل : بأكثر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 59 ] ويزعم بعض الناس أن قبره في بصرى بقرية يقال لها : عصم . ولم أجد لذلك أصلا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية