الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الآداب الشرعية والمنح المرعية

ابن مفلح - محمد بن مفلح بن محمد المقدسي

صفحة جزء
[ ص: 313 ] فصل من لم يشكر الناس لا يشكر الله عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا { لا يشكر الله من لا يشكر الناس } إسناد صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال في النهاية : معناه أن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر أمرهم ; لاتصال أحد الأمرين بالآخر ، وقيل معناه : أن من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكره لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل وترك الشكر له ، وقيل معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله عز وجل وأن شكره كما تقول لا يحبني من لا يحبك أي : أن محبتك مقرونة بمحبتي فمن أحبني يحبك ، ومن لا يحبك فكأنه لم يحبني .

وهذه الأقوال مبنية على رفع اسم الله عز وجل ونصبه .

وروى أحمد من حديث الأشعث بن قيس مرفوعا مثل حديث أبي هريرة ورواه أيضا بلفظ آخر { إن أشكر الناس لله تعالى أشكرهم للناس } .

وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا { من أتى إليه معروف فليكافئ به فإن لم يستطع فليذكره فمن ذكره فقد شكره . } رواه أحمد .

وفي حديث آخر { الأمر بالمكافأة فإن لم يستطع فليدع له } رواه أبو داود وغيره أظنه من حديث ابن عمر .

وعن أسامة مرفوعا { من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء } رواه الترمذي . وقال : حسن صحيح غريب .

قال : قد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

وقال أبو داود : حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { قال : من أبلى بلاء فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره } ورواه أيضا بمعناه من طريق آخر وهو حديث حسن وهو للترمذي وقال : غريب ولفظه { من أعطي عطاء فليجز به إن وجد وإن لم يجد فليثن به فإن من أثنى به فقد شكره ومن [ ص: 314 ] كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور }

أي : ذي زور وهو الذي يزور على الناس يتزيا بزي أهل الزهد رياء أو يظهر أن عليه ثوبين وليس عليه إلا ثوب واحد .

وعن النعمان مرفوعا { من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل ، والتحدث بنعمة الله عز وجل شكر وتركها كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب } رواه أحمد ، وضعفه ابن الجوزي بعد ذكره الجراح بن مليح والد وكيع ، وأكثرهم قواه فهو حديث حسن .

وعن أبي سعيد مرفوعا { من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل . } رواه أحمد والترمذي وحسنه .

وعن أنس قال : { إن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهبت الأنصار بالأجر كله قال لا ما دعوتم الله عز وجل لهم وأثنيتم عليهم } رواه أبو داود والترمذي قال " مثنى بن جامع : إنه سمع أبا عبد الله أحمد بن حنبل يذكر عن وهب بن منبه ترك المكافأة من التطفيف " وكذا قال غير وهب من السلف .

قال أحمد في رواية حنبل في رجل له على رجل معروف وأياد ما أحسن أن يخبر بفعاله به ليشكره الناس ويدعون له قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل } والله تبارك وتعالى يحب أن يشكر ويحمد ، والنبي صلى الله عليه وسلم أحب الشكر .

وفي الصحيحين أنه عليه السلام قال : { يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقالت امرأة منهن جزلة : وما لنا أكثر أهل النار ؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير } جزلة بفتح الجيم وسكون الزاي أي : ذات عقل ورأي ، والجزالة : العقل والوقار فقد توعد على كفران العشير وهو في الأصل المعاشر والمراد هنا الزوج ، توعد على كفران العشير والإحسان بالنار ، فدل على أنه كبيرة على نص أحمد رحمه الله بخلاف اللعن فإنه قال : " تكثرن اللعن " والصغيرة تصير كبيرة بالكثرة .

ولأحمد رضي الله عنه من حديث أبي هريرة { ما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه } أيضا بإسناد [ ص: 315 ] ضعيف من حديث معاذ بن أنس { أن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم قيل من أولئك ؟ قال : متبر من والديه راغب عنهما متبر من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم } .

وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشديني شعر ابن العريض اليهودي حيث قال : إن الكريم فأنشدت :

إن الكريم إذا أراد وصالنا لم يلف حبلا واهيا رث القوى     أرعى أمانته وأحفظ غيبه
جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى     أجزيه أو أثني عليه فإن من
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

} قال ابن عبد البر : هذا الشعر ما يصح فيه إلا ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة للعريض اليهودي وهو العريض بن السموأل بن عاديا اليهودي من ولد الكاهن بن هارون ، شاعر ابن شاعر وأما أهل الأخبار فاختلفوا في قائله فقيل لورقة بن نوفل وقيل ( لزهير بن جناب ) الكلبي وقيل لعامر بن المجنون ، وقيل لزيد بن عمرو بن نفيل ، ومنهم من قال إنها لزيد بن عمرو ، ولورقة بن نوفل البيتان ولم أذكرهما أنا هنا ، قال ابن عبد البر : والصحيح فيهما وفي الأبيات غيرهما أنهما للعريض اليهودي والله أعلم .

وقال ابن أبي ليلى : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :

لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة     أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذا منحتكها مني مهذبة     حذوا على حذو ما أوليت من حسن



ومما أنشده الرياشي :

شكري كفعلك فانظر في عواقبه     تعرف بفعلك ما عندي من الشكر

وقيل لسعيد بن جبير رضي الله عنه : المجوسي يوليني خيرا فأشكره قال : نعم وقال بعضهم :

[ ص: 316 ]

إنني أثني بما أوليتني     لم يضع حسن بلاء من شكر
إنني والله لا أكفركم     أبدا ما صاح عصفور الشجر



وقال آخر :

فلو كان يستغني عن الشكر ماجد     لعزة ملك أو علو مكان
لما ندب الله العباد لشكره     فقال اشكروني أيها الثقلان

وقال عمر بن عبد العزيز : ذكر النعم شكر .

وقال جعفر بن محمد : من لم يشكر الجفوة لم يشكر النعمة ، كذا ذكره ابن عبد البر عنه فإن صح ففيه نظر ، قال الشاعر :

وما تخفى الصنيعة حيث كانت     ولا الشكر الصحيح من السقيم

وقال سليمان التميمي : إن الله عز وجل أنعم على عباده بقدر طاعتهم وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم ، فقالوا : كل شكر وإن قل : ثمن لكل نوال وإن جل .

وقال رجل من قريش لأشعب : الطمع يا أشعب ، أحسنت إليك فلم تشكر ، فقال : إن معروفك خرج من غير محتسب إلى غير شاكر ، وقالوا : لا تثق بشكر من تعطيه حتى تمنعه .

وقال جعفر بن محمد رحمه الله : ما من شيء أسر إلي من يد أتبعها أخرى ; لأن منع الأواخر ، يقطع لسان شكر الأوائل . وذكر غير ابن عبد البر قول ابن شبرمة : ما أعرفني بجيد الشعر :

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا     وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها     وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على حمل حادث     من الأمر ردوا فضل أحلامكم ردوا

[ ص: 317 ] وسأل حماد بن سلمة الأصمعي كيف تنشد هذا البيت يعني البيت الأول فأنشده وقال : البناء بكسر الباء ، فرد عليه : البنا بضم الباء .

وقال : إن القوم إنما بنوا المكارم لا اللبن والطين ، وذكر غير واحد كسر الباء وضمها ، فالكسر جمع بنية نحو كسرة وكسر ، والضم جمع بنية نحو ظلمة وظلم ، قالوا : وكان حماد بن سلمة رأى الضم لئلا يشتبه بالبناء بمعنى العمارة باللبن والطين والله سبحانه أعلم .

وقال ابن هبيرة الوزير الحنبلي رحمه الله تعالى : إنما يبالغ في التوسل إلى البخيل لا إلى الكريم كما قال ابن الرومي :

وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله     وأطال فيه فقد أسر هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى     عند الورود لما أطال رشاءه

.

التالي السابق


الخدمات العلمية