الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 573 ] ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة ، وأكمل تجمل لقتال الزنج ، فساروا نحوهم ، فكان بينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه ، وقد استقصاه الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في " تاريخه " مبسوطا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل ذلك أنه آل الحال ، وانتهى الحرب والجلاد والجدال والنزال إلى أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة ، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب ، ولكن سلمه الله وغنمه ، وأعلى كلمته ، وسدد رميته ، وأجاب دعوته ، وفتح على يديه ، وأسبغ نعمته عليه ، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد ، ولقب بالمعتضد كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله من بغداد في صفر من هذه السنة في جيوش كثيفة ، فدخل واسط في ربيع الأول منها ، فتلقاه ابنه وأخبره عن [ ص: 574 ] الجيوش الذين معه ، وما تحملوا من أعباء الجهاد ، فخلع عليه وعلى الأمراء كلهم خلعا سنية ، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها ، وسماها المنيعة ، فقاتلوا دونها قتالا عظيما فقهرهم ، ودخلها عنوة وهربوا منها ، فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون ، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئا كثيرا ، واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة ، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط ، ثم أمر بهدم سور البلد وطم خندقها وجعلها بلقعا بعدما كانت للبشر مجمعا ، وعادت يبابا بعد كونها للخبيث جنابا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم سار الموفق إلى المدينة التي يقال لها : المنصورة . من إنشاء الزنج أيضا وبها سليمان بن جامع ، فحاصرها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين ، ورمى أبو العباس بن الموفق أحمد بن مهدي بسهم فأصابه في دماغه فقتله ، وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج فشق ذلك عليه جدا ، وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج ، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب ، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات ، وابتهل إلى الله في الدعاء ، واجتهد في حصارها ، فهزم الله مقاتلتها ، وانتهى إلى [ ص: 575 ] خندقها ; فإذا هو قد حصن غاية التحصين ، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار ، فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوزه إلى الذي يليه ، حتى انتهى إلى البلد ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وهرب بقيتهم وأسر من نساء الزنج ومن حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا ، واستنقذ من أيديهم من النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة وواسط نحوا من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهاليهم ، جزاه الله خيرا . ثم أمر بهدم خنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها ، وأقام بها سبعة عشر يوما ، وبعث في آثار من انهزم من الزنج ، فكان لا يؤتى بأحد منهم إلا استماله إلى الخير برفق ولين وصفح ، وأضافه إلى بعض الأمراء ، وكان مقصوده رجوعهم إلى الحق ، ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها ، وطردهم منها ، وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم ; منهم أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري ، وكان رئيسا فيهم مطاعا ، وغنم شيئا كثيرا من أموالهم ، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج - قبحه الله - كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة مما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج والأموال ، يبذل له الأمان إن هو رجع إلى الحق ، فلم يرد عليه صاحب الزنج جوابا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 576 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية