الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثانية

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .

                                                                                                                                                                                                              فيها ست مسائل : [ ص: 275 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : في سبب نزولها : روي { أنها نزلت حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية عام ست ، فصده المشركون عن دخول البيت ، ومنعوه ، فقاضاهم على العام المستقبل ، وقضى عمرته في مكانه ، ونحر هديه ، وحلق رأسه ، ورجع إلى المدينة } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله : { والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد } فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أنه أراد به المسجد نفسه ، دون الحرم ; وهو ظاهر القرآن ; لأنه لم يذكر غيره .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه أراد به الحرم كله ; لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه ، فنزل خارجا منه في الحل ، وعيرهم الله بذلك ، ودل عليه أيضا قوله : { والمسجد الحرام } ، فصفة الحرام تقتضي الحرم كله ، ; لأنه بصفته في التحريم ، وآخذ بجزاء عظيم من التكرمة والتعظيم بإجماع من المسلمين ; ألا ترى إلى قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } ، وكان الحرم مثله ; لأنه حريمه ، وحريم الدار من الدار .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : قوله : { جعلناه للناس }

                                                                                                                                                                                                              يريد خلقناه لهم ، وسميناه ، ووضعناه شرعا ودينا ، وقد بينا معنى الجعل وتصرفاته .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : قوله : { سواء العاكف } .

                                                                                                                                                                                                              يعني المقيم ، وكذلك اسمه في اللغة . والبادي : يريد الطارئ عليه . وقد قال ابن وهب : سألت مالكا عن قول الله : { سواء العاكف فيه والباد } [ ص: 276 ] فقال لي مالك : السعة والأمن والحق . قال مالك : وقد كانت الفساطيط تضرب في الدور ينزلها الناس . والبادي أهل البادية وغيرهم ممن يقدم عليهم . ثم قال : { وجاء بكم من البدو }

                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم : وسئل مالك عن ذلك ، فقال : سواء في الحق والسعة ، والبادي أهل البادية ، ومن يقدم عليهم ، وقد كانت تضرب الفساطيط في الدور ، ولقد سمعت أن عمر بن الخطاب كان ينزع أبواب مكة إذا قدم الناس . قال : والحج كله في كتاب الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : في المعنى الذي فيه التسوية : وفيه قولان :

                                                                                                                                                                                                              أحدهما : في دوره ومنازله ، ليس المقيم فيها أولى بها من الطارئ عليها . هذا قول مجاهد ومالك كما تقدم وغيره .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنهما في الحق سواء والحرمة والنسك .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح عموم التسوية في ذلك كله ، كما قال مالك ، وعليه حمله عمر بن الخطاب ، فقد روي أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم ، فينزل حيث شاء ، وهذا ينبني على أصلين : أحدهما : أن دور مكة [ هل هي ] ملك لأربابها أم هي للناس ؟ الثاني : ينبني عليه هذا الأصل ، وهو أن مكة هل افتتحت عنوة أو صلحا ؟ وقد بينا ذلك فيما تقدم .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى علقمة بن نضلة قال : توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما نرى رباع مكة إلا السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن . وقد بينا في مسائل الخلاف القول في رباع مكة .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 277 ] والذي عندي الآن فيها { أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح مكة عنوة ، لكنه من عليهم في أنفسهم ، فسموا الطلقاء ، ومن عليهم في أموالهم ، أمر مناديه فنادى : من أغلق عليه بابه فهو آمن ، وتركهم في منازلهم على أحوالهم من غير تغيير عليهم } ، ولكن الناس إذا كثروا واردين عليهم شاركوهم بحكم الحاجة إلى ذلك .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى نافع عن ابن عمر أن عمر كان نهى أن تغلق مكة زمن الحاج ، وأن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا فارغا ، حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية