الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل فيما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه وإكسابه . ولا يكون إلا بمباشرة أو بسبب قريب أو بعيد : قال الله تعالى : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } ، وقال : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ، أي ليس له إلا [ ص: 135 ] جزاء سعيه ، وقال : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } ، ولأن الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته واجتناب معصيته ، وذلك مختص بفاعليه ، إذ لا يكون معظم المحرمات منتهكا لها بانتهاك غيره ، ولا منتهك المحرمات معظما لها بتعظيم غيره ، فكذلك لا تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات ، ولا في الطاعات البدنيات ، إلا ما استثنى من الطاعات كالحج والعمرة والصوم والصدقات رحمة للعاجزين بتحصيل ثواب هذه القربات ، وللنائبين عنهم بالتسبب إلى إنالة ثواب هذه الطاعات .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ; صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له } ، ومعناه انقطع أجر عمله أو ثواب عمله فهذا على وفق القاعدة لأن هذه المستثنيات من كسبه ، فإن العلم المنتفع به من كسبه فجعل له ثواب التسبب إلى تعليم هذا العلم .

وكذلك الصدقة الجارية تحمل على الوقف وعلى الوصية بمنافع داره وثمار بستانه على الدوام ، فإن ذلك من كسبه ، لتسببه إليه ، فكان له أجر التسبب ، وليس الدعاء مخصوصا بالولد ، بل الدعاء شفاعة جائزة من الأقارب والأجانب ، وليست مستثناة من هذه ، لأن ثواب الدعاء للداعي والمدعو به حاصل للمدعو له ، فإن طلب له المغفرة والرحمة كانت المغفرة والرحمة مخصوصين بالمدعو له ، وثواب الدعاء للداعي ، كما لو شفع إنسان لفقير في كسوة أو في العفو عن زلة ، كانت للشافع ثواب الشفاعة في العفو والكسوة ، وكانت مصلحة العفو والكسوة للفقير .

وقد ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته ، وهذا خطأ صريح فإن المصائب ليست من كسبه بمباشرة ولا تسبب ، فمن قتل ولده أو غصب ماله أو أصيب ببلاء في جسده ، فليست هذه المصائب من كسبه ولا تسببه حتى يؤجر عليها ، بل إن صبر عليها كان له أجر الصابرين وإن [ ص: 136 ] رضي بها كان له أجر الراضين ولا يؤجر على نفس المصيبة ، لأنها ليست من عمله ، فقد قال تعالى : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } ، كيف والمصائب الدنيوية عقوبات على الذنوب ، والعقوبة ليست ثوابا ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } ، وقوله عليه السلام . { ما من مؤمن يشاك شوكة فما دونها إلا قص به من سيئاته } ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته } .

فيحمل قوله عليه السلام { من عزى مصابا فله مثل أجره } ، على تقدير فله مثل أجر صبره . لقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } . هذا في المصائب التي لا تسبب له إليها .

وأما ما تسبب إليه فإن كان من السيئات كتب عليه وأخذ به في الدنيا والآخرة ، فإن من جرح إنسانا فسرى الجراح إلى نفسه كان وزر القتل وقصاصه وديته عليه ، ولو ألقى على إنسان حجرا ثم مات الملقي قبل وصول الحجر على الملقى عليه فهلك بذلك الحجر بعد موت الملقي ، فإنه يأثم إثم القاتلين العامدين ، ويجب عليه ما يجب عليهم ، مع كون القتل وقع بعد خروجه عن التكليف ، لأنه لما كان القتل مسببا عن إلقائه ، قدر كأنه قتله عند ابتداء إلقائه وإن كان ما يتسبب إليه من الحسنات أجر عليه ومثاله : التسبب للقتل في سبيل الله تعالى بالجراح أو الرمي كما لو رمى سهما في كافر فأصابه السهم بعد موت الرامي فقتله كان له سلبه وأجر قتله .

وكذلك إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل بسبب أمره ونهيه فهذا متسبب إلى قتل نفسه لله عز وجل ، فيكون حكمه حكم من قتل الكفرة أو الفجرة ، ولا يثاب على القتل ، لأن القتل ليس من كسبه ، وإنما يثاب عليه لأنه تسبب إليه بأمره ونهيه .

وكذلك تسبب الغازي إلى قتل نفسه لحضوره المعركة . [ ص: 137 ] فإن قيل : القتل معصية من القاتل الكافر ، فكيف يتمنى الإنسان الشهادة مع أن تسببها معصية ؟ فالجواب أنه ما يتمنى القتل من جهة أنه قتل وإنما تمنى أن يثبت في القتال ، فإن أتى القتل على نفسه فكان ثوابه على تعرضه للقتل لا على نفس القتل الذي ليس من كسبه ، وعلى هذا يجعل قوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } ، أي تمنون القتل في سبيل الله من قبل أن تلقوا أسبابه في يوم أحد ، ويجوز أن يتمنى الإنسان القتل من جهة كونه سببا لنيل منازل الشهداء ، لا من جهة كونه قتلا ومعصية ، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ، وموتا في بلد رسولك .

وأما قتل أهل البغي فإنه خطأ من البغاة ، ولا يثاب المقطوع على خطأ غيره ، وكذا الثواب على دفع مفسدة البغي بالقتال .

التالي السابق


الخدمات العلمية