الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 372 ] قوله : ( وهو مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه ) .

ش : أما قوله : وهو مستغن عن العرش وما دونه . فقال تعالى : فإن الله غني عن العالمين [ آل عمران : 97 ] . وقال تعالى : والله هو الغني الحميد [ فاطر : 15 ] . وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا ، لأنه لما ذكر العرش والكرسي ، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ، ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ، ليس لحاجته إليه ، بل له في ذلك حكمة اقتضته ، وكون العالي فوق السافل ، لا يلزم أن يكون السافل حاويا للعالي ، محيطا به ، حاملا له ، ولا أن يكون الأعلى مفتقرا إليه . فانظر إلى السماء ، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها ؟ فالرب تعالى أعظم شأنا وأجل من أن يلزم من علوه ذلك ، بل لوازم علوه من خصائصه ، وهي حمله بقدرته للسافل ، وفقر السافل ، وغناه هو سبحانه عن السافل ، وإحاطته عز وجل به ، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته ، وغناه عن العرش ، وفقر العرش إليه ، وإحاطته بالعرش ، وعدم إحاطة العرش به ، وحصره للعرش ، وعدم حصر العرش له . وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق .

ونفاة العلو ، أهل التعطيل ، لو فصلوا بهذا التفصيل ، لهدوا إلى سواء السبيل ، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ، ولسلكوا خلف الدليل ، ولكن فارقوا الدليل ، فضلوا عن سواء السبيل . والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله ، لما سئل عن قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ ص: 373 ] [ الأعراف : 53 ] وغيرها : كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول . ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه ، وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه ، بغير واو من قوله : فوقه ، والنسخة الأولى هي الصحيحة ، ومعناها أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء . ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش . وهذه - والله أعلم - إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهوا ، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة ، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصدا للفساد ، وإنكارا لصفة الفوقية ! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات ، فلا يبقى لقوله : محيط بكل شيء فوق العرش ، - والحالة هذه - : معنى ! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به ، فتعين ثبوت الواو . ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء ، وفوق كل شيء .

[ ص: 374 ] أما كونه محيطا بكل شيء ، فقال تعالى : والله من ورائهم محيط [ البروج : 20 ] . ألا إنه بكل شيء محيط [ فصلت : 54 ] . ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا [ النساء : 126 ] . وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . وإنما المراد : إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة ، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة . كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن ، إلا كخردلة في يد أحدكم .

ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها ، وإن شاء جعلها تحته ، وهو في الحالين مباين لها ، عال عليها فوقها من جميع الوجوه ، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف . فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم ، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن ، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته ؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره . وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو رزين : كيف يسعنا - يا رسول الله - وهو واحد [ ص: 375 ] ونحن جميع ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر ، آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، والله أكبر من ذلك ، وإذ قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء . فهذا يزيل كل إشكال ، ويبطل كل خيال .

التالي السابق


الخدمات العلمية