الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله . ( ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله ، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ) . ش : أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله : ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب .

واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم . فالناس فيه ، في جنس تكفير أهل [ ص: 433 ] المقالات والعقائد الفاسدة ، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم ، على طرفين ووسط ، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية .

فطائفة تقول : لا نكفر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عاما ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين ، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين .

وأيضا : فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة ، والمحرمات الظاهرة المتواترة ، ونحو ذلك ، فإنه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل كافرا مرتدا . والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور ، كما ذكره الخلال في كتاب السنة ، بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال : إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ الأنعام : 68 ] .

ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا [ ص: 434 ] بذنب ، بل يقال : لا نكفرهم بكل ذنب ، كما تفعله الخوارج . وفرق بين النفي العام ونفي العموم . والواجب إنما هو نفي العموم ، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب .

ولهذا - والله أعلم - قيده الشيخ رحمه الله [ بقوله ] : ما لم يستحله . وفي قوله : ما لم يستحله إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب ، الذنوب العملية لا العلمية . وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع . إلا أن يضمن قوله : يستحله بمعنى : يعتقده ، أو نحو ذلك .

وقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله . . . إلى آخر كلامه ، رد على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة . فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون نكفر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان . لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر ! والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين ! ! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار ! .

[ ص: 435 ] وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ، لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأولا ، فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، أو يقولون : يكفر كل مبتدع . وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك .

والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه . وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : وأهل الكبائر في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون .

والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال إن إيمانه حبط بمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو : أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به - : يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفوس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن ، وأن الله لا يرى في الآخرة ، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها . وعن أبي يوسف رحمه الله ، أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة ، حتى اتفق رأيي [ ص: 436 ] ورأيه : أن من قال بخلق القرآن فهو كافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية