الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      المتوكل على الله

                                                                                      الخليفة ، أبو الفضل ، جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور ، القرشي العباسي البغدادي . ولد سنة خمس ومائتين . [ ص: 31 ] وبويع عند موت أخيه الواثق في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين :

                                                                                      حكى عن : أبيه ، ويحيى بن أكثم . وكان أسمر جميلا ، مليح العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، ربعة ، وأمه اسمها شجاع .

                                                                                      قال خليفة بن خياط : استخلف المتوكل ، فأظهر السنة ، وتكلم بها في مجلسه ، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة ، وبسط السنة ، ونصر أهلها . وقد قدم المتوكل دمشق في صفر سنة 244 فأعجبته ، وعزم على المقام بها ، ونقل دواوين الملك إليها ، وأمر بالبناء بها ، وأمر للأتراك بمال رضوا به ، وأنشأ قصرا كبيرا بداريا مما يلي المزة .

                                                                                      قال علي بن الجهم : كانت للمتوكل جمة إلى شحمة أذنيه مثل أبيه والمأمون .

                                                                                      وقال الفسوي : رجع من دمشق بعد شهرين إلى سامراء .

                                                                                      وقيل : نعتت له دمشق ، وأنها توافق مزاجه ، وتذهب علله التي تعرض له بالعراق .

                                                                                      قال خليفة وحج بالناس قبل الخلافة . [ ص: 32 ] وكان قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي يقول : الخلفاء ثلاثة : أبو بكر يوم الردة ، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية ، والمتوكل في محو البدع ، وإظهار السنة .

                                                                                      وقال يزيد بن محمد المهلبي : قال لي المتوكل : إن الخلفاء كانت تتصعب على الناس ليطيعوهم ، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني .

                                                                                      وحكى الأعسم أن علي بن الجهم دخل على المتوكل ، وبيده درتان يقلبهما ، فأنشده قصيدة له ، فدحا إليه بالواحدة فقلبتها ، فقال : تستنقص بها ؟ هي والله خير من مائة ألف . فقلت : لا والله ، لكني فكرت في أبيات آخذ بها الأخرى . وأنشأت أقول :

                                                                                      بسر من رأى إمام عدل تغرف من بحره البحار     يرجى ويخشى لكل خطب
                                                                                      كأنه جنة ونار     الملك فيه وفي بنيه
                                                                                      ما اختلف الليل والنهار     لم تأت منه اليمين شيئا
                                                                                      إلا أتت مثلها اليسار

                                                                                      [ ص: 33 ] فدحا بها إلي ، وقال : خذها ، لا بارك الله لك فيها .

                                                                                      قال الخطيب ورويت هذه للبحتري في المتوكل .

                                                                                      وعن مروان بن أبي الجنوب أنه مدح المتوكل بقصيدة ، فوصله بمائة وعشرين ألفا وثياب .

                                                                                      قال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفا بقبيحة لا يصبر عنها . فوقفت له وقد كتبت على خدها بالغالية " جعفر " ، فتأملها ، ثم أنشأ يقول :

                                                                                      وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا     بنفسي محط المسك من حيث أثرا
                                                                                      لئن أودعت سطرا من المسك خدها     لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

                                                                                      وفي أول خلافته كانت الزلزلة بدمشق ، سقط شرفات الجامع ، وانصدع حائط المحراب ، وهلك خلق تحت الردم ، دامت ثلاث [ ص: 34 ] ساعات ، وهرب الناس إلى المصلى يستغيثون .

                                                                                      وقال أحمد بن كامل في " تاريخه " : ومات تحت الهدم معظم أهلها ، كذا قال ، وامتدت إلى الجزيرة ، وهلك بالموصل خمسون ألفا ، وبأنطاكية عشرون ألفا ، وبلي ابن أبي دواد بالفالج . وفي سنة 234 أظهر المتوكل السنة ، وزجر عن القول بخلق القرآن ، وكتب بذلك إلى الأمصار ، واستقدم المحدثين إلى سامراء ، وأجزل صلاتهم ، ورووا أحاديث الرؤية والصفات . ونزع الطاعة محمد بن البعيث نائب أذربيجان وأرمينية ، فسار لحربه بغا الشرابي ، ثم بعد فصول أسر . وفي سنة 235 ألزم المتوكل النصارى بلبس العسلي . وفي سنة ست أحضر القضاة من البلدان ليعقد بولاية العهد لبنيه : المنتصر محمد ، ثم للمعتز ، ثم للمؤيد إبراهيم . وكانت الوقعة بين المسلمين والروم ، ونصر الله . [ ص: 35 ] وفي سنة ست وثلاثين هدم المتوكل قبر الحسين -رضي الله عنه- . فقال البسامي أبياتا منها : أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا     في قتله فتتبعوه رميما
                                                                                      وكان المتوكل فيه نصب وانحراف ، فهدم هذا المكان وما حوله من الدور ، وأمر أن يزرع ، ومنع الناس من انتيابه .

                                                                                      قال ابن خلكان : هكذا قاله أرباب التواريخ . وفي سنة سبع قتلت الأمراء عامل أرمينية يوسف ، فسار لحربهم بغا الكبير ، فالتقوا ، وبلغت المقتلة ثلاثين ألفا . وعفى قبر الشهيد الحسين وما حوله من الدور . فكتب الناس شتم المتوكل على الحيطان ، وهجته الشعراء كدعبل وغيره . وبعث المتوكل إلى نائبه بمصر ، فحلق لحية قاضي القضاة محمد بن أبي الليث ، وضربه ، وطوف به على حمار في رمضان ، وسجن ، وكان ظلوما [ ص: 36 ] جهميا ، ثم ولي القضاء الحارث بن مسكين ، فكان يضربه كل حين عشرين سوطا ليؤدي ما وجب عليه ، فإنا لله . وغضب المتوكل على أحمد بن أبي دواد ، وصادره ، وسجن أصحابه ، وحمل ستة عشر ألف ألف درهم ، وافتقر هو وآله . وولى يحيى بن أكثم القضاء ، وأطلق من تبقى في الاعتقال ممن امتنع من القول بخلق القرآن ، وأنزلت عظام أحمد بن نصر الشهيد ، ودفنها أقاربه ، وبنى قصر العروس بسامراء ، وأنفق عليه ثلاثون ألف ألف درهم . والتمس المتوكل من أحمد بن حنبل أن يأتيه ، فذهب إلى سامراء ولم يجتمع به ، استعفى ، فأعفاه ، ودخل على ولده المعتز ، فدعا له .

                                                                                      وفي سنة ثمان وثلاثين ، عصى متولي تفليس ، فنازلها بغا ، وقتل متوليها وأحرقها ، وفعل القبائح ، وافتتح عدة حصون . وأقبلت الروم في ثلاثمائة مركب ، فكبسوا دمياط ، وسبوا ستمائة امرأة ، وأحرقوا ، وردوا مسرعين ، فحصنها المتوكل . وفي سنة 239 غزا يحيى بن علي الأرمني بلاد الروم ، حتى قرب من [ ص: 37 ] القسطنطينية ، وأحرق ألف قرية ، وسبى عشرين ألفا ، وقتل نحو العشرة آلاف ، وعزل يحيى بن أكثم من القضاء ، وأخذ منه أربعة آلاف جريب ومائة ألف دينار . وفي سنة أربعين فيها سمع أهل خلاط صيحة من السماء ، مات منها جماعة كثيرة . وفي سنة 241 ماجت النجوم ، وتناثرت شبه الجراد أكثر الليل ، فكان ذلك آية مزعجة . وفيها خرج ملك البجاة ، وسار المصريون لحربه ، فحملوا على البجاة ، فنفرت جمالهم ، وكانوا يقاتلون ، ثم تمزقوا ، وقتل خلق ، وجاء ملكهم بأمان إلى المتوكل ، وهم يعبدون الأصنام . وفي سنة 242 الزلزلة بقومس والدامغان ، والري وطبرستان ، ونيسابور ، وأصبهان ، وهلك منها بضعة وأربعون ألفا ، وانهد نصف مدينة الدامغان . [ ص: 38 ] وفي سنة 244 نفى المتوكل طبيبه بختيشوع . واتفق عيد النحر وعيد النصارى وعيد الفطير في يوم واحد . وفي سنة 245 عمت الزلزلة الدنيا ، ومات منها خلائق . وبنى المتوكل الماحوزة ، وسماها الجعفري ، وأنفق عليها بعد معاونة الجيش له ألفي ألف دينار ، وتحول إليها ، وفيها وقع بناحية بلخ مطر كالدم العبيط .

                                                                                      وكان المتوكل جوادا ممدحا لعابا ، وأراد أن يعزل من العهد المنتصر ، ويقدم عليه المعتز لحبه أمه قبيحة ، فأبى المنتصر ، فغضب أبوه وتهدده ، وأغرى به ، وانحرفت الأتراك على المتوكل لمصادرته وصيفا وبغا حتى اغتالوه .

                                                                                      قال المبرد : قال المتوكل لعلي بن محمد بن الرضا : ما يقول ولد أبيك في العباس ؟ .

                                                                                      قال : ما تقول يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعته على نبيه ، وذكر حكاية طويلة ، وبكى المتوكل ، وقال له : يا أبا الحسن ، لينت منا قلوبا قاسية ، أعليك دين ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر له بها .

                                                                                      حكى المسعودي أن بغا الصغير دعا بباغر التركي ، فكلمه ، وقال : [ ص: 39 ] قد صح عندي أن المنتصر عامل على قتلي ، فاقتله . قال : كيف بقتله والمتوكل باق ؟ إذا يقيدكم به ، قال : فما الرأي ؟ قال : نبدأ به ، قال : ويحك وتفعل ؟ ! قال : نعم . قال : فادخل على أثري ، فإن قتلته ، وإلا فاقتلني ، وقل : أراد أن يقتل مولاه . فتم التدبير ، وقتل المتوكل .

                                                                                      وحدث البحتري قال : اجتمعنا في مجلس المتوكل ، فذكر له سيف هندي ، فبعث إلى اليمن ، فاشتري له بعشرة آلاف ، فأعجبه . وقال للفتح : ابغني غلاما أدفع إليه هذا السيف لا يفارقني به ، فأقبل باغر ، فقال الفتح بن خاقان : هذا موصوف بالشجاعة والبسالة ، فأعطاه السيف ، وزاد في أرزاقه . فما انتضى السيف إلا ليلة ، ضربه به باغر ، فلقد رأيت من المتوكل في ليلته عجبا ، رأيته يذم الكبر ، ويتبرأ منه . ثم سجد وعفر وجهه ، ونثر التراب على رأسه ، وقال : إنما أنا عبد ، فتطيرت له ، ثم جلس ، وعمل فيه النبيذ ، وغني صوتا أعجبه ، فبكى ، فتطيرت من بكائه . فإنا في ذلك إذ بعثت له قبيحة خلعة استعملها دراعة حمراء من خز ومطرف خز ، فلبسهما ، ثم تحرك في المطرف ، فانشق ، فلفه ، وقال : اذهبوا به ليكون كفني . فقلت : إنا لله ، انقضت والله المدة . وسكر المتوكل سكرا شديدا . ومضى من الليل إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم ، فهجموا علينا ، وقصدوا المتوكل ، وصعد باغر وآخر إلى السرير ، فصاح الفتح : ويلكم مولاكم . وتهارب الغلمان والجلساء والندماء ، وبقي الفتح ، فما رأيت أحدا أقوى نفسا منه ، بقي يمانعهم ، فسمعت صيحة المتوكل إذ ضربه باغر بالسيف المذكور على عاتقه ، فقده إلى خاصرته ، وبعج آخر الفتح بسيفه ، فأخرجه من ظهره ، وهو صابر لا يزول ، ثم طرح [ ص: 40 ] نفسه على المتوكل ، فماتا ، فلفا في بساط ، ثم دفنا معا . وكان بغا الصغير استوحش من المتوكل لكلام ، وكان المنتصر يتألف الأتراك ، لا سيما من يبعده أبوه .

                                                                                      قال المسعودي : ونقل في مقتله غير ذلك . قال : وقد أنفق المتوكل فيما قيل على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مائتي ألف ألف درهم .

                                                                                      ويقال : إنه كان له أربعة آلاف سرية وطئ الجميع . وقتل وفي بيت المال أربعة آلاف ألف دينار ، وسبعة آلاف ألف درهم ، ولا يعلم أحد من رءوس الجد والهزل إلا وقد حظي بدولته ، واستغنى ، وقد أجاز الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار . وفيه يقول يزيد بن محمد المهلبي :

                                                                                      جاءت منيته والعين هاجعة     هلا أتته المنايا والقنا قصد
                                                                                      خليفة لم ينل من ماله     أحد ولم يصغ مثله روح ولا جسد



                                                                                      قال علي بن الجهم : أهدى ابن طاهر إلى المتوكل وصائف عدة ، فيها محبوبة ، وكانت شاعرة عالمة بصنوف من العلم عوادة ، فحلت من المتوكل محلا يفوت الوصف ، فلما قتل ضمت إلى بغا الكبير ، فدخلت عليه يوما للمنادمة ، فأمر بهتك الستر ، وأمر القيان ، فأقبلن يرفلن في الحلي والحلل ، وأقبلت هي في ثياب بيض ، فجلست منكسرة ، فقال : غني ، فاعتلت ، فأقسم عليها ، وأمر بالعود فوضع في حجرها ، فغنت ارتجالا : [ ص: 41 ]

                                                                                      أي عيش يلذ لي     لا أرى في ه جعفرا
                                                                                      ملك قد رأيته     في نجيع معفرا
                                                                                      كل من كان ذا خبا     ل وسقم فقد برا
                                                                                      غير محبوبة التي لو     ترى الموت يشترى
                                                                                      لاشترته بما حوت     ه يداها لتقبرا

                                                                                      فغضب بغا ، وأمر بسحبها ، وكان آخر العهد بها . وبويع المنتصر من الغد بالقصر الجعفري يوم خامس شوال سنة سبع وأربعين ومائتين . وقيل : لم يصح عنه النصب ، وقد بكى من وعظ علي بن محمد العسكري العلوي ، وأعطاه أربعة آلاف دينار . فالله أعلم .

                                                                                      للمتوكل من البنين : المنتصر محمد ، وموسى ، وأمهما حبشية ، وأبو عبد الله المعتز ، وإسماعيل ، وأمهما قبيحة ، والمؤيد إبراهيم ، وأحمد وهو المعتمد ، وأبو الحميد ، وأبو بكر ، وآخرون . وقد ماتت أمه شجاع قبله بسنة ، وخلفت أموالا لا تحصر ، من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية