الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 210 ] كتاب الحدود

التالي السابق


( كتاب الحدود ) لما اشتملت الأيمان على بيان الكفارة وهي دائرة بين العقوبة والعبادة أولاها الحدود التي هي عقوبات محضة اندفاعا إلى بيان الأحكام بتدريج ، ولولا ما يعارض هذه المناسبة من لزوم التفريق بين العبادات المحضة لكان

[ ص: 211 ] إيلاء الحدود الصوم أوجه لاشتماله على بيان كفارة الإفطار المغلب فيها جهة العقوبة حتى تداخلت على ما عرف ، بخلاف كفارة الأيمان المغلب فيها جهة العبادة ، لكن كان يكون الترتيب حينئذ الصلاة ثم الأيمان ثم الصوم ثم الحدود ثم الحج ، فيقع من الفصل بين العبادات التي هي جنس واحد بالأجنبي ما يبعد بين الأخوات المتحدة في الجنس القريب ويوجب استعمال الشارع لها كذلك ، لكنه قال { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله } الحديث ، ثم محاسن الحدود أظهر من أن تذكر ببيان وتكتب ببيان ; لأن الفقيه وغيره يستوي في معرفة أنها للامتناع عن الأفعال الموجبة للفساد ; ففي الزنا ضياع الذرية وإماتتها معنى بسبب اشتباه النسب ، ولا يلزم بموت الولد مع ما فيه من تهمة الناس البرآء وغيره ; ولذا ندب عموم الناس إلى حضور حده ورجمه .

وفي باقي الحدود زوال العقل وإفساد الأعراض وأخذ أموال الناس وقبح هذه الأمور مركوز في العقول ولذا لم تبح الأموال والأعراض والزنا والسكر في ملة من الملل وإن أبيح الشرب ، وحين كان فساد هذه الأمور عاما كانت الحدود التي هي مانعة منها حقوق الله على الخلوص ، فإنها حقوقه تعالى على الخصوص أبدا تفيد مصالح عامة ، ولذا قال المصنف : والمقصود من شرعيته للانزجار عما يتضرر به العباد ; والعبارة المشهورة في بيان حكمة شرعيتها الزجر إلا أنه لما كان الزجر يراد للانزجار عدل المصنف إلى قوله الانزجار ، إلا أن قوله : والطهارة ليست بأصلية إلى آخره : أي الطهارة من ذنب بسبب الحد يفيد أنه مقصود أيضا من شرعيتها لكنه ليس مقصودا أصليا بل هو تبع لما هو الأصل من الانزجار وهو خلاف المذهب ، فإن المذهب أن الحد لا يعمل في سقوط إثم قبل سببه أصلا ، بل لم يشرع إلا لتلك الحكمة ، وأما ذلك فقول طائفة كثيرة من أهل العلم واستدلوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما في البخاري وغيره { إن من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه } واستدل الأصحاب بقوله تعالى في قطاع الطريق ذلك أي التقتيل والصلب والنفي بأن { لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا } فأخبر أن جزاء فعلهم عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية ، إلا من تاب فإنها حينئذ تسقط عنه العقوبة الأخروية .

وبالإجماع للإجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا ، ويجب أن يحمل الحديث على ما إذا تاب في العقوبة ; لأنه هو الظاهر ; لأن الظاهر أن ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه مسبب فعله فيقيد به جمعا بين الأدلة ، وتقييد الظني عند معارضة القطعي له متعين ، بخلاف العكس ، وإنما أراد المصنف أنه لم يشرع للطهرة فأداه بعبارة غير جيدة ، ولذا استدل عليه بشرعيته في حق الكافر ، ولا طهرة في حقه من الذنب بالحد : يعني أن عقوبة الذنب لم ترتفع بمجرد الحد بل بالتوبة معه إن وجد ، ولم تتحقق في حقه ; لأن التوبة عبادة وهو ليس من أهلها .

وأما من يقول : إن الحد بمجرده يسقط إثم ذلك السبب الخاص الذي حد به ، فإن قال : إن الحد لا يسقط عن الكافر يحتاج إلى دليل سمعي في ذلك إذ السمع إنما يوجب لزوم عقوبة الكفر في حقه لا بتضاعف عذاب الكفر عليه ، فإذا فرض أن الله سبحانه جعل الحد مسقطا لعقوبة معصية صار الفاعل لها إذا حد بمنزلة ما إذا لم يفعلها فلا يضم إلى عذاب الكفر عذاب تلك

[ ص: 212 ] المعصية إذا حد بها الكافر إلا أن يدل دليل سمعي على ذلك .

وأما الاستدلال على عدم كون الحد مسقطا بأنه يقام عليه وهو كاره له فليس بشيء لجواز التكفير بما يصيب الإنسان من المكاره والله أعلم . ثم تحقيق العبارة ما قال بعض المشايخ : إنها موانع قبل الفعل زواجر بعده : أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعده يمنع من العود إليه




الخدمات العلمية