الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 493 ] كتاب الوكالة

                                                                                                                                            مسألة : قال المزني رضي الله عنه : " قال الله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا الآية فأمر بحفظ أموالهم حتى يؤنس منهم الرشد وهو عند الشافعي أن يكون بعد البلوغ مصلحا لماله عدلا في دينه ، وقال تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ووليه عند الشافعي هو القيم بماله ( قال المزني ) فإذا جاز أن يقوم بماله بتوصية أبيه بذلك إليه ، وأبوه غير مالك كان أن يقوم فيه بتوكيل مالكه أجوز وقد وكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عقيلا ( قال المزني ) وذكر عنه أنه قال هذا عقيل ما قضي عليه فعلي وما قضي له فلي ، ( قال الشافعي ) ولا أحسبه كان يوكله إلا عند عمر بن الخطاب ولعله عند أبي بكر رضي الله عنهما ، ووكل أيضا عنه عبد الله بن جعفر عند عثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي حاضر فقبل ذلك عثمان " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            والأصل في جواز الوكالة الكتاب والسنة والوفاق والعبرة ، فأما الكتاب فهو ما استشهد به المزني من الآيتين وهو قوله تعالى : وابتلوا اليتامى [ النساء : 6 ] .

                                                                                                                                            والثانية قوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] ووجه الدلالة منها أنه لما جاز نظر الأولياء ونظرهم إنما يكون بتوصية أب أو تولية حاكم وهما لا يملكان كان توكيل المالك في ملكه أجوز .

                                                                                                                                            ومنه قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف [ الكهف : 19 ] فلما أضاف الورق إلى جميعهم وجعل لهم استنابة أحدهم دل على جواز الوكالة وصحة الاستنابة ، وفي قوله تعالى : فلينظر أيها أزكى طعاما [ الكهف : 19 ] ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : أنها أكثر طعاما وهذا قول عكرمة .

                                                                                                                                            والثاني : أنها أحل طعاما وهذا قول سعيد بن جبير .

                                                                                                                                            [ ص: 494 ] والثالث : أنها خير طعاما وهذا قول قتادة .

                                                                                                                                            وفي قوله فليتلطف تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : فليسترخص .

                                                                                                                                            والثاني : وليتلطف في إخفاء أمركم فلا يشعرن بكم أحدا .

                                                                                                                                            ومنه قوله تعالى حكاية عن قول يوسف للعزيز : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [ يوسف : 55 ] أي وكلني على خزائن الأرض .

                                                                                                                                            ومنه قوله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : ] والحكم وكيل .

                                                                                                                                            وأما السنة فما رواه قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الوليان فالأول أحق وإذا باع المجيزان فالأول أحق .

                                                                                                                                            قال الشافعي : فيه دلالة على أن الوكالة في النكاح والبيع جائزة ، وروى شبيب بن عروة عن الحسن عن عروة البارقي قال أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ليشتري به أضحية فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار وأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح فيه .

                                                                                                                                            وروى أبو الحصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصدق به ودعا له أن يبارك له في تجارته .

                                                                                                                                            وروى أبو نعيم وهب بن كيسان عن جابر قال : أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت : إني أريد الخروج إلى خيبر فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته .

                                                                                                                                            [ ص: 495 ] وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع في تزويج ميمونة بنت الحارث ، ووكل عمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة بنت أبي سفيان .

                                                                                                                                            وروي أن علي بن أبي طالب عليه السلام وكل أخاه عقيلا وقال إن للخصومات قحما وإنها لتخلف ، وإن الشيطان يحضرها وإني إن حضرت خفت أن أغضب وإن غضبت خفت ألا أقول حقا وقد وكلت أخي عقيلا فما قضي عليه فعلي وما قضي له فلي .

                                                                                                                                            قال الشافعي : ولا أحسبه كان توكيله إلا عند عمر بن الخطاب ولعل عند أبي بكر الصديق .

                                                                                                                                            وروي أن عليا رضي الله عنه وكل عبد الله بن جعفر عند عثمان لما كبر عقيل في شرب كان ينازع طلحة بن عبيد الله فركب عثمان في نفر من الصحابة رضي الله عنهم إلى الموضع الذي كانا يتحاكمان فيه حتى أصلح بينهما في الشرب فصار هذا إجماعا منهم على جواز الوكالة .

                                                                                                                                            ولأن الوكالة معونة إما لمن أحب صيانة نفسه عن البذلة فيها وإما لمن عجز عن القيام بها وكلا الأمرين مباح وحاجة الناس إليه أشد ماسة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية