الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      [ ص: 97 ] ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة فكان منشروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر ، نافذ الأمر ، عظيم الهيبة ظاهر العفة ، قليل الطمع ، كثير الورع ; لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وثبت القضاة ، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين ، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين ، فإن كان ممن يملك الأمور العامة كالوزراء والأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد وكان له بعموم ولايته النظر فيها ، وإن كان ممن لم يفوض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد وتولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة ، وهذا إنما يصح فيمن يجوز أن يختار لولاية العهد أو لوزارة التفويض أو لإمارة الأقاليم إذا كان نظره في المظالم عاما ، فإن اقتصر به على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه وإمضاء ما قصرت يدهم عن إمضائه جاز أن يكون دون هذه الرتبة في القدر والخطر بعد أن لا تأخذه في الحق لومة لائم ولا يستشفه الطمع إلى رشوة . فقد { نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام رضي الله عنه ورجل من الأنصار فحضره بنفسه فقال للزبير : اسق أنت يا زبير ثم الأنصاري فقال الأنصاري إنه لابن عمتك يا رسول الله فغضب من قوله وقال يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين } .

                                      وإنما قال أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه ، واختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين هل كان حقا بينه لهما حكما أو كان مباحا فأمره به زجرا [ ص: 98 ] على جوابين ، ولم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة أحد لأنهم في الصدر الأول مع ظهور الدين عليهم بين من يقوده التناصف إلى الحق أو يزجره الوعظ عن الظلم ، وإنما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء ، فإن تجور من جفاة أعرابهم متجور ثناه الوعظ أن يدبر وقاده العنف أن يحسن فاقتصر خلفاء السلف على فصل التشاجر بينهم بالحكم والقضاء تعيينا للحق في جهته لانقيادهم إلى التزامه ، واحتاج علي رضي الله عنه حين تأخرت إمامته واختلط الناس فيها وتجوروا إلى فصل صرامة في السياسة وزيادة تيقظ في الوصول إلى غوامض الأحكام فكان أول من سلك هذه الطريقة واستقل بها ولم يخرج فيها إلى نظر المظالم المحض لاستغنائه عنه . وقال في المنبرية : صار ثمنها تسعا . وقضى في القارصة والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا . وقضى في ولد تنازعته امرأتان بما أدى إلى فصل القضاء ، ثم انتشر الأمر بعده حتى تجاهر الناس بالظلم والتغالب ولم يكفهم زواجر العظة عن التمانع والتجاذب ، فاحتاجوا في ردع المتغلبين وإنصاف المغلوبين إلى نظر المظالم الذي يمتزج به قوة السلطنة بنصف القضاء ، فكان أول من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر عبد الملك بن مروان ، فكان إذا وقف منها على مشكل أو احتاج فيها إلى حكم منفذ رده إلى قاضيه أبي إدريس الأودي فنفذ فيه أحكامه لرهبة التجارب من عبد الملك بن مروان في علمه بالحال ووقوفه على السبب ، فكان أبو إدريس هو المباشر وعبد الملك هو الآمر . ثم زاد من جور الولاة وظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي وأنفذ الأوامر ، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أول من ندب نفسه للنظر في المظالم فردها وراعى السنن العادلة وأعادها ، ورد مظالم بني أمية على أهلها حتى قيل له وقد شدد عليهم فيها وأغلظ إنا نخاف عليك من ردها العواقب ، فقال كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وقيته . ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة ، فكان أول من جلس لها المهدي ، ثم الهادي ، ثم الرشيد ، ثم المأمون فآخر من جلس لها المهتدي حتى عادت الأملاك إلى مستحقيها .

                                      وقد كان ملوك [ ص: 99 ] الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذي لا يعم الصلاح إلا بمراعاته ولا يتم التناصف إلا بمباشرته .

                                      وكانت قريش في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم وكان سببه ما حكاه الزبير بن بكار أن رجلا من اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه رجل من بني سهم ، وقيل إنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه فسأله ماله أو متاعه فامتنع عليه فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته ( من البسيط ) :


                                      يال قصي لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر     وأشعث محرم لم تقض حرمته
                                      بين المقام وبين الحجر والحجر     أقائم من بني سهم بذمتهم
                                      أو ذاهب في ضلال مال معتمر

                                      ثم قيس بن شيبة السلمي باع متاعا على أبي بن خلف فلواه وذهب بحقه ، فاستجار برجل من بني جمح فلم يجره ، فقال قيس من الرجز :


                                      يال قصي كيف هذا في الحرم     وحرمة البيت وأحلاف الكرم
                                      أظلم لا يمنع عني من ظلم

                                      فأجابه العباس بن مرداس السلمي ( من البسيط ) :


                                      إن كان جارك لم تنفعك ذمته     وقد شربت بكأس الذل أنفاسا
                                      فأت البيوت وكن من أهلها صددا     لا تلق تأديبهم فحشا ولا باسا
                                      ومن يكن بفناء البيت معتصما     يلق ابن حرب ويلق المرء عباسا
                                      قومي قريش بأخلاق مكملة     بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا
                                      ساق الحجيج وهذا ناشر فلج     والمجد يورث أخماسا وأسداسا

                                      فقام أبو سفيان والعباس بن عبد المطلب فردا عليه ماله واجتمعت بطون قريش فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل [ ص: 100 ] النبوة وهو ابن خمس وعشرين سنة فعقدوا حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاكرا للحال : { لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت ، وما أحب أن لي به حمر النعم } .

                                      وإني بقصته وما يزيده الإسلام إلا شدة فقال بعض قريش في هذا الحلف ( من البسيط ) :


                                      تيم بن مرة إن سألت وهاشما     وزهرة الخير في دار ابن جدعان
                                      متحالفين على الندى ما غردت     ورقاء في فنن من جذع كتمان

                                      وهذا وإن كان فعلا جاهليا دعتهم إليه السياسة فقد صار بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم له وما قاله في تأكيد أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية