الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كتاب الوصايا ) .

[ ص: 411 - 412 ] باب في صفة الوصية ما يجوز من ذلك وما يستحب منه وما يكون رجوعا عنه

التالي السابق


( كتاب الوصايا )

قال الشراح : إيراد كتاب الوصايا في آخر الكتاب ظاهر المناسبة ، لأن آخر أحوال الآدمي في الدنيا الموت ، والوصية معاملة وقت الموت . أقول : يرد عليه أن كتاب الوصايا ليس بمورد في آخر هذا الكتاب ، وإنما المورد في آخره كتاب الخنثى كما ترى . نعم إن كثيرا من أصحاب التصانيف أوردوه في آخر كتبهم ، لكن الكلام في شرح هذا الكتاب . ويمكن الجواب من قبل الشراح بحمل الآخر في قولهم في آخر الكتاب على الإضافي ، فإن آخره الحقيقي وإن كان كتاب الخنثى إلا أن كتاب الوصايا أيضا آخره بالإضافة إلى ما قبله حيث كان في قرب آخره الحقيقي ، وعن هذا ترى القوم يقولون وقع هذا في أوائل كذا وأواخره ، فإن صيغة الجمع لا تتمشى في الأول الحقيقي والآخر الحقيقي ، وإنما المخلص من ذلك تعميم الأول والآخر للحقيقي والإضافي . ويمكن أن يقال أيضا : لما كان ما ذكر في كتاب الخنثى نادرا من حيث الوقوع ومن حيث المسائل أيضا جعلوه [ ص: 411 ] في حكم العدم واعتبروا كتاب الوصايا آخر الكتاب .

ثم إن الوصية في اللغة اسم بمعنى المصدر هو التوصية ، ومنه قوله تعالى { حين الوصية } ثم سمى الموصى به وصية ، ومنه قوله تعالى { من بعد وصية توصون بها } وفي الشريعة : تمليك مضاف إلى ما بعد الموت بطريق التبرع ، سواء كان ذلك في الأعيان أو في المنافع ، كذا في عامة الشروح .

قال بعض المتأخرين : ثم الوصية والتوصية وكذا الإيصاء في اللغة : طلب فعل من غيره ليفعله في غيبته حال حياته أو بعد وفاته . وفي الشريعة : تمليك مضاف إلى ما بعد الموت على سبيل التبرع عينا كان أو منفعة ، هذا هو التعريف المذكور في عامة الكتب ، والوصية بهذا المعنى هي المحكوم عليها بأنها مستحبة غير واجبة ، وأن القياس يأبى جوازها ، فعلى هذا يكون بعض المسائل مثل مسألة الوصية بحقوق الله تعالى وحقوق العباد . والمسائل المتعلقة بالوصي مذكورة في كتاب الوصايا بطريق التطفل ، لكن التحقيق أن هذه الألفاظ كما أنها موضوعة في الشرع للمعنى المذكور موضوعة فيه أيضا لطلب شيء من غيره ليفعله بعد مماته فقط ، نقل هذا عن مبسوط شيخ الإسلام خواهر زاده ، لكن يشترط استعمال لفظ الإيصاء باللام في المعنى الأول وبإلى في المعنى الثاني ، فحينئذ يكون ذكر المسائل المذكور على أنها من فروع المعنى الثاني لا على سبيل التطفل ، إلى هنا لفظه .

أقول : ما عده تحقيقا ليس بشيء . أما أولا فلأن التي تكون من فروع المعنى الثاني من المسائل المذكورة إنما هي المسائل المتعلقة بالوصي دون مسائل الوصية المتعلقة بحقوق الله تعالى وحقوق العباد ، فإن استعمال لفظ الإيصاء فيها باللام لا بإلى ، يقال أوصى لحقوق الله تعالى أو لحقوق العباد ولا يقال أوصى إليها كما لا يخفى ، فبقي أمر التطفل في حق تلك المسائل من المسائل التي ذكرها من قبل إذ لم يشملها شيء من المعنيين المذكورين قط ، وأما ثانيا فلأن مسائل التبرعات الواقعة من الإنسان في مرض موته بطريق التنجيز مذكورة أيضا في كتاب الوصايا ، ومنها باب العتق في المرض كما سيجيء في الكتاب ، ولا ريب في عدم شمول شيء من المعنيين المذكورين شيئا من تلك المسائل ، فبقي أمر التطفل في حق تلك المسائل كلها بالنظر إلى ذينك المعنيين معا ، فمن أين كان ارتكاب جمعهما في لفظ واحد بتأويل بعيد مع عدم عموم المشترك عندنا حقيقيا بأن يعد تحقيقا كما زعمه ذلك القائل . ثم أقول : الوجه في التفصي عن أمر التطفل في حق المسائل التي ذكرها ذلك القائل حمل معنى الوصية شريعة على ما ذكره صاحب البدائع حيث قال : وأما بيان معنى الوصية اسم لما أوجبه الموصي في ماله بعد موته . ويقرب منه ما ذكره صاحب الوقاية حيث قال : هي إيجاب بعد الموت فإنهما يشملان تلك المسائل جملة كما لا يخفى على المتأمل ، والوجه في التفصي عن أمر التطفل في حق مسائل كتاب الوصايا كلها من المعلقات والمنجزات حمل معنى الوصية شريعة على ما نقله صاحب النهاية عن الإيضاح حيث قال : ذكر في الإيضاح : الوصية ما أوجبها الموصي في ماله بعد موته أو مرضه الذي مات فيه انتهى . فإنه يشمل جميع ما ذكر في كتاب الوصايا كما لا يخفى على ذي مسكة . ثم إن سبب الوصية سبب سائر التبرعات ، وهو إرادة تحصيل ذكر الخير في الدنيا ووصول الدرجات العالية في العقبى .

وشرائطها : كون الموصي أهلا للتبرع ، وأن لا يكون مديونا ، وكون الموصى له حيا وقت الوصية ، وإن لم يكن مولودا ، حتى إذا أوصى للجنين إذا كان موجودا حيا عند الوصية يصح وإلا فلا ، وإنما تعرف حياته في ذلك الوقت بأن ولد قبل ستة أشهر حيا ، وكونه أجنبيا حتى إن الوصية للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة ، وأن لا يكون قاتلا وكون الموصى به شيئا قابلا للتمليك من الغير بعقد من العقود حال حياة الموصي سواء كان موجودا في الحال أو معدوما ، وأن يكون بمقدار الثلث حتى إنها لا تصح فيما زاد على الثلث ، كذا في النهاية وفي العناية أيضا بطريق الإجمال . أقول : فيه قصور ، بل خلل . أما أولا فلأنه جعل من شرائطها أن لا يكون الموصي مديونا بدون التقييد بأن يكون الدين مستغرقا لتركته ، والشرط عدم هذا الدين المقيد دون عدم الدين المطلق كما صرح به في البدائع وغيره . وأما ثانيا فلأنه جعل من شرائطها كون الموصي حيا وقت الوصية ، والشرط كونه موجودا وقت الوصية لا كونه حيا فيه ، ألا يرى أنهم جعلوا الدليل عليه الولادة قبل ستة [ ص: 412 ] أشهر حيا ، وتلك إنما تدل على وجود الجنين وقت الوصية لا على حياته في ذلك الوقت كما لا يخفى على العارف بأحوال الجنين في الرحم وبأقل مدة الحمل وعن هذا كان المذكور في عامة المعتبرات عند بيان هذا الشرط أن يكون الموصى له موجودا وقت الوصية بدون ذكر قيد الحياة أصلا ، وأما ثالثا فلأنه جعل من شرائطها أن يكون الموصى به مقدار الثلث لا زائدا عليه ، وهو ليس بسديد على إطلاقه فإن الموصي إذا ترك ورثة فإنما لا تصح وصيته بما زاد على الثلث إن لم تجزه الورثة ، وإن أجازوه صحت وصيته به . وأما إذا لم يترك وارثا فتصح وصيته بما زاد على الثلث حتى بجميع ماله عندنا كما تقرر في موضعه فلا بد من التقييد مرتين : مرة بأن يكون له وارث ، وأخرى بأن لا يجيزه الوارث .




الخدمات العلمية