الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 336 ] كتاب الحظر والإباحة مناسبته ظاهرة . والحظر لغة : المنع والحبس . وشرعا : ما منع من استعماله شرعا ، والمحظور ضد المباح ، والمباح ما أجيز للمكلفين فعله وتركه بلا استحقاق ثواب وعقاب ، نعم يحاسب عليه حسابا يسيرا اختيار . ( كل مكروه ) [ ص: 337 ] أي كراهة تحريم ( حرام ) أي كالحرام في العقوبة بالنار ( عند محمد ) وأما المكروه كراهة تنزيه فإلى الحل أقرب اتفاقا ( وعندهما ) وهو الصحيح المختار ، ومثله البدعة والشبهة ( إلى الحرام أقرب ) فالمكروه تحريما ( نسبته إلى الحرام كنسبة الواجب إلى الفرض ) فيثبت بما يثبت به الواجب يعني بظني الثبوت ، ويأثم بارتكابه كما يأثم بترك الواجب ، ومثله السنة المؤكدة . وفي الزيلعي في بحث حرمة الخيل : القريب من الحرام ما تعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار ، بل العتاب كترك السنة المؤكدة ، فإنه لا يتعلق به عقوبة النار ، ولكن يتعلق به الحرمان عن شفاعة النبي المختار صلى الله عليه وسلم لحديث { من ترك سنتي لم ينل شفاعتي } فترك السنة المؤكدة قريب من الحرام ، وليس بحرام ا هـ .

التالي السابق


كذا ترجمه في الخانية والتحفة ، وترجم في الجامع الصغير والهداية بالكراهية ، وفي المبسوط والذخيرة بالاستحسان ، فإن مسائل هذا الكتاب من أجناس مختلفة فلقب بذلك لما وجد في عامة مسائله من الكراهية والحظر والإباحة والاستحسان كما في النهاية ، وترجم بعضهم بكتاب الزهد والورع لأن فيه كثيرا من المسائل أطلقها الشرع ، والزهد والورع تركها ، وفي أبي السعود عن طلبة الطلبة : الاستحسان استخراج المسائل الحسان وهو أشبه ما قيل فيه ، أما القياس والاستحسان المذكوران في جواب مسائل الفقه فبيانها في الأصول ( قوله مناسبته ظاهرة ) في بعض النسخ مناسبتها والأولى أولى ، وهي كما في شروح الهداية كون عامة مسائل كل منه ومن الأضحية لم تخل من أصل وفرع ترد فيه الكراهة ، وعلى ترجمة المصنف يقال يرد فيه الحظر أو الإباحة ، ولما ذكرت المناسبة بين الأضحية وما قبلها كانت الأضحية واقعة في محلها ، فلا يرد أن هذه المناسبة لا تفيد وجه ذكر هذا الكتاب عقب الأضحية ، ولا يرد أن هذا الكتاب له مناسبة بكل كتاب فافهم ( قوله والحظر لغة المنع والحبس ) قال الله تعالى - { وما كان عطاء ربك محظورا } - أي ما كان رزق ربك محبوسا عن البر والفاجر جوهرة ، والإباحة الإطلاق زيلعي ( قوله وشرعا إلخ ) أشار إلى أن المراد هنا بالمصدر اسم المفعول ، فلا يرد أن ما ذكره تعريف للمحظور والمباح لا للحظر والإباحة تأمل ( قوله والمحظور ضد المباح ) أل في المحظور للعهد أي المحظور الشرعي الذي ذكرنا أنه ما منع من استعماله شرعا ضد للمباح ، ولا ينافي ذلك أن للمباح ضدا آخر وهو الواجب ، إذ ليس مراده بذلك تعريفه بما ذكر لأنه قدم تعريفه كما علمت . وبه اندفع ما يقال إنه تعريف بالأعم لأنه كما يصدق على المكروه والحرام يصدق على الواجب .

وليس تعريفه الخاص ما ثبت حظره بدليل قطعي بل ما ذكره الشارح من أنه ما منع من استعماله شرعا ليشمل ما ثبت بظني فافهم ( قوله والمباح ما أجيز للمكلفين فعله وتركه ) كذا في المنح . والذي في الجوهرة : ما خير المكلف بين فعله وتركه ( قوله بلا استحقاق ) استحقه : استوجبه قاموس .

ويطلق على جزاء العبد من ثواب أو عقاب أنه يستحقه بفضل الله وعدله ( قوله نعم يحاسب عليه حسابا يسيرا ) لا يقال إن ذلك عذاب ، بدليل ما ورد " { من نوقش الحساب عذب } " لأن المناقشة الاستقصاء في الحساب كما في القاموس ( قوله كل مكروه ) يقال : كرهت الشيء أكرهه كراهة [ ص: 337 ] وكراهية فهو كريه ومكروه صحاح . والكراهة : عدم الرضا . وعند المعتزلة : عدم الإرادة ، فتفسير المطرزي لها في المغرب بعدم الإرادة ميل إلى مذهبه كما أفاد أبو السعود ( قوله أي كراهة تحريم ) ، وهي المرادة عند الإطلاق كما في الشرع ، وقيده بما إذا كان في باب الحظر والإباحة ا هـ بيري ( قوله حرام ) أي يريد به أنه حرام . قال في الهداية إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام ا هـ .

فإذا وجد نصا يقطع القول بالتحريم أو التحليل ، وإلا قال في الحل لا بأس وفي الحرمة أكره إتقاني ( قوله أي كالحرام إلخ ) كذا قال القهستاني ، ومقتضاه أنه ليس حراما حقيقة عنده بل هو شبيه به من جهة أصل العقوبة في النار وإن كان عذابه دون العذاب على الحرام القطعي ، وهو خلاف ما اقتضاه ذكر الاختلاف بينه وبين الشيخين وتصحيح قولهما ، نعم هو موافق لما حققه المحقق ابن الهمام في تحرير الأصول من أن قول محمد إنه حرام فيه نوع من التجوز للاشتراك في استحقاق العقاب ، وقولهما على سبيل الحقيقة للقطع بأن محمدا لا يكفر جاحد الواجب والمكروه كما يكفر جاحد الفرض والحرام فلا اختلاف بينه وبينهما في المعنى كما يظن ا هـ وأيده شارحه ابن أمير حاج بما ذكره محمد في المبسوط أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة : إذا قلت في شيء أكرهه فما رأيك فيه ؟ قال التحريم ، ويأتي فيه أيضا ما في لفظ محمد للقطع أيضا بأن أبا حنيفة لا يكفر جاحد المكروه ا هـ وعلى هذا فالاختلاف في مجرد صحة الإطلاق ، ويأتي تمام الكلام عليه قريبا ( قوله فإلى الحل أقرب ) بمعنى أنه لا يعاقب فاعله أصلا ، لكن يثاب تاركه أدنى ثواب تلويح ، وظاهره أنه ليس من الحلال ، ولا يلزم من عدم الحل الحرمة ولا كراهة التحريم ، لأن المكروه تنزيها كما في المنح مرجعه إلى ترك الأولى .

والفاصل بين الكراهتين كما في القهستاني والمنح عن الجواهر : إن كان الأصل فيه الحرمة ، فإن سقطت لعموم البلوى فتنزيه كسؤر الهرة ، وإلا فتحريم كلحم الحمار ، وإن كان حكم الأصل الإباحة وعرض ما أخرجه عنها ، فإن غلب على الظن وجود المحرم فتحريم كسؤر البقرة الجلالة وإلا فتنزيه كسؤر سباع الطير ( قوله مثله البدعة والشبهة ) الذي يفيده كلام القهستاني أن البدعة مرادفة للمكروه عند محمد والشبهة مرادفة للمكروه عندهما ( قوله نسبته ) أي من حيث الثبوت ، وقوله فيثبت إلخ بيان لها لكن في اقتصاره على ظني الثبوت قصور في العبارة . بيان ذلك أن الأدلة السمعية أربعة ، الأول قطعي الثبوت والدلالة كنصوص القرآن المفسرة أو المحكمة والسنة المتواترة التي مفهومها قطعي الثاني قطعي الثبوت ظني الدلالة كالآيات المؤولة الثالث عكسه كأخبار الآحاد التي مفهومها قطعي الرابع ظنيهما كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني ، فبالأول يثبت الافتراض والتحريم ، وبالثاني والثالث الإيجاب وكراهة التحريم ; وبالرابع تثبت السنية والاستحباب .

( قوله وفي الزيلعي إلخ ) بيان للمراد من [ ص: 338 ] الإثم في قوله ويأثم بارتكابه إلخ ; وما في الزيلعي موافق لما في التلويح حيث قال : معنى القرب إلى الحرمة أنه يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار ; وترك السنة المؤكدة قريب من الحرمة يستحق حرمان الشفاعة ا هـ . ومقتضاه أن ترك السنة المؤكدة مكروه تحريما لجعله قريبا من الحرام ، والمراد سنن الهدى كالجماعة والأذان والإقامة فإن تاركها مضلل ملوم كما في التحرير والمراد الترك على وجه الإصرار بلا عذر ولذا يقاتل المجمعون على تركها لأنها من أعلام الدين ، فالإصرار على تركها استخفاف بالدين فيقاتلون على ذلك ذكره في المبسوط ، ومن هنا لا يكون قتالهم عليها دليلا على وجوبها أو تمامه في شرح التحرير تأمل .

ثم إن ما ذكر هنا من استحقاقه محذورا دون العقوبة بالنار مخالف لما قدمه الشارح آنفا وجزم به ابن الهمام في التحرير من أنه يستحق العقوبة بالنار ، إلا أن يقال ما مر خاص بقول محمد بناء على أن المكروه عنده من الحرام ، وما هنا على قولهما بأنه إلى الحرام أقرب ، وهذا يفيد أن الخلاف ليس لفظيا وهو خلاف ما قدمناه عن التحرير ولذا نقل أبو السعود عن المقدسي أن حاصل الخلاف أن محمدا جعله حراما لعدم قاطع بالحل ، وجعلاه حلالا ; لأنه الأصل في الأشياء ولعدم القاطع بالحرمة ا هـ ولا تنافي الكراهة الحل لما في القهستاني عن خلع النهاية ، كل مباح حلال بلا عكس كالبيع عند النداء فإنه حلال غير مباح لأنه مكروه ا هـ .

وفي التلويح : ما كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام ، وبظني مكروه تحريما ، وبدون منع مكروه تنزيها ، وهذا على رأي محمد . وعلى رأيهما ما تركه أولى ، فمع المنع حرام ، وبدونه مكروه تنزيها لو إلى الحل أقرب ; وتحريما لو إلى الحرام أقرب ا هـ . فأفاد أنه ممنوع عن فعله عنده لا عندهما ، وبه يظهر مساواته للسنة المؤكدة على رأيهما في اتحاد الجزاء بحرمان الشفاعة ; والمراد والله تعالى أعلم الشفاعة برفع الدرجات أو بعدم دخول النار لا الخروج منها ، أو حرمان مؤقت ، أو أنه يستحق ذلك ، فلا ينافي وقوعها . وبه اندفع ما أورد أنه ليس فوق مرتكب الكبيرة في الجرم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام " { شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } " كما ذكره حسن جلبي في حواشي التلويح ; وتمامه في حواشينا على المنار




الخدمات العلمية