الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والسبعون والمائة بين قاعدة المطلقات يقضي قبل علمهن بالطلاق وأمد العدة فلا يلزمهن استئنافها ويكتفين بما تقدم قبل علمهن وبين قاعدة المرتابات يتأخر الحيض ولا يعلم لتأخره سبب )

فإنهن يمكثن عند مالك رحمه الله تسعة أشهر غالب مدة الحمل استبراء فإن حضن في خلالها احتسبن بذلك الحيض وانتظرن بقية الأقراء إلى تسعة أشهر ولا يزلن كذلك حتى يكمل لهن [ ص: 201 ] ثلاثة قروء أو تسعة أشهر فإذا انقضت تسعة أشهر ليس في خلالها حيض استأنفن ثلاثة أشهر كمال السنة فإن حضن قبل السنة بلحظة استأنفن الأقراء حتى تمضي سنة لا حيض فيها ووافقه أحمد بن حنبل رضي الله عنه .

وقال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما تنتظر الحيض إلى سن الإياس حجة مالك رحمه الله قول عمر رضي الله عنه أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت عنها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة بثلاثة أشهر ؛ ولأنهن بعد التسعة يئسن من المحيض إذ لو كان لظهر غالبا فيندرجن في قوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } إذا تقرر هذا بقي السؤال المحوج للفرق بين هذه القاعدة وقاعدة تقدم العدد قبل العلم فإنهن إذا مضى لهن تسعة أشهر لا حيض فيها فقد مضى لهن ثلاثة أشهر في خلالها فلا حاجة إلى إعادة ثلاثة أشهر أخر وما الفرق بين هذه الثلاثة وبين الثلاثة تمضي قبل العلم والمقصود براءة الرحم بمضي ثلاثة أشهر لم يظهر فيها حمل .

وقد حصلت فالموضع في غاية الإشكال وجوابه أن هذه النسوة وإن انكشف الغيب عن إياسهن إلا أن العدة لا بد وأن تكون بعد سببها وإن علم حصول براءة الرحم قبل السبب فإن من غاب عن امرأة عشر سنين ، ثم طلقها بعد العشر وهو غائب عنها فإنها تستأنف العدة إجماعا ؛ لأن تلك المدة المتقدمة وهي العشر سنين وإن دلت على براءة الرحم غير أن تلك المدة وقعت قبل السبب [ ص: 202 ] والواقع قبل السبب من جميع الأحكام لا يعتد به كالصلاة قبل الزوال والصوم قبل رؤية الهلال وإخراج الزكاة قبل ملك النصاب والله سبحانه وتعالى جعل الإياس سببا للعدة ثلاثة أشهر ؛ لأنه تعالى رتبه عليها بصيغة الفاء لقوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } فتدل هذه الآية على السببية في الإياس من وجهين

( أحدهما ) أن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم كقولنا اقطعوا السارق واجلدوا الزاني وغير ذلك فإن هذه الأوصاف المتقدمة أسباب لهذه الأحكام المترتبة عليها كذلك هاهنا يكون الإياس سببا للاعتداد بثلاثة أشهر والواقع من الأشهر قبل كمال التسعة واقع قبل إياسنا وإياسهن من الحيض ، فيكون واقعا قبل سببه فلا يعتد به ويتعين استئناف ثلاثة بعد تحقق السبب .

وأما المطلقات تمضي لهن ثلاثة أشهر بعد الطلاق وقبل العلم به والمتوفى عنهن أزواجهن يمضي لهن أربعة أشهر وعشر بعد الوفاة وقبل علمهن بأن تلك الآجال عدد وقعت بعد أسبابها وهي الوفاة والطلاق والعلم في تلك الصور ليس سببا إجماعا والإياس هنا سبب فلا بد أن يتحقق كما تحققت الوفاة والطلاق فلذلك لم تحصل العدة قبله كما لا تعتد قبل الوفاة والطلاق فظهر الفرق بين البابين والتباين بين القاعدتين

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والسبعون والمائة بين قاعدة المطلقات يقضي بالطلاق وأمد العدة قبل علمهن بذلك فيكتفين بما تقدم على علمهن من أمدها ولا يلزمهن استئنافه وبين قاعدة المرتابات يتأخر الحيض ولا يعلم لتأخيره سبب فيمكثن عند مالك وأحمد رحمهما الله تسعة أشهر غالب مدة الحمل استبراء )

فإن حضن في خلالها احتسبن بذلك الحيض وانتظرن بقية الأقراء إلى تسعة أشهر ولا يزلن كذلك حتى يكمل لهن ثلاثة قروء أو تسعة أشهر فإذا انقضت تسعة أشهر ليس في خلالها حيض استأنفن ثلاثة أشهر كمال السنة فإن حضن قبل السنة ، ولو بلحظة استأنفن الأقراء حتى ينقضي الأقراء أو سنة لا حيض فيها قال حفيد ابن رشد في بدايته واختلف عن مالك من متى تعتد بتسعة الأشهر فقيل من يوم طلقت وهو قوله في الموطإ وروى ابن القاسم عنه من يوم رفعتها حيضتها ا هـ بلفظه ، وقال الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى تنتظر الحيض إلى سن الإياس وقول مالك وأحمد رحمهما الله وإن كانت حجتهما عليه بأمرين

( أحدهما ) قول عمر رضي الله عنه أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ، ثم رفعت عنها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذاك وإلا اعتدت بعد التسعة بثلاثة أشهر

( وثانيهما ) أنهن بعد التسعة يئسن من المحيض إذ لو كان لظهر غالبا بدليل أن الحامل قد تحيض فحيث لم تحض في مدة الحمل كانت مدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم المقصود بالعدة ، بل هي قاطعة على ذلك فيندرجن في { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } إلا أنه يقال عليه ما الفرق بين هذه الثلاثة وبين الثلاثة تمضي قبل العلم والمقصود براءة الرحم بمضي ثلاثة أشهر لم يظهر فيها حمل ، وقد حصلت في كلا البابين وجوابه أن هذه النسوة المرتابات وإن انكشف الغيب عن إياسهن ، إلا أن العدة لما كانت لا تحصل بمجرد العلم بحصول براءة الرحم وإلا لحصلت لامرأة من غاب عشر سنين ، ثم طلقها بعد العشرة وهو غائب عنها حيث إن تلك المدة قد دلت على براءة الرحم ، وليس كذلك إجماعا ، بل إنما تحصل بالعلم بحصول براءة الرحم بعد سببها لا قبل سببها إذ الواقع قبل السبب من جميع الأحكام لا يعتد به كالصلاة قبل الزوال والصوم قبل رؤية الهلال وإخراج الزكاة قبل ملك النصاب فإذا انعقد الإجماع على أن امرأة من غاب عشر سنين ، ثم طلقها بعد العشر وهو غائب عنها تستأنف العدة بعد تلك المدة المتقدمة وإن دلت على براءة الرحم إلا أنها وقعت قبل سبب العدة الذي هو الطلاق كان الواقع للمرتابات من الأشهر قبل كمال التسعة واقعا قبل إياسنا وإياسهن من الحيض ، والله سبحانه وتعالى جعل الإياس سببا للعدة ثلاثة أشهر فإن قوله تعالى { واللائي يئسن من [ ص: 229 ] المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } يدل على السببية في الإياس من وجهين

( أحدهما ) أنه تعالى رتبه على عدة ثلاثة الأشهر بفاء الجزاء

( وثانيهما ) أن الموصول مع صلته في قوة المشتق ، وقد ترتب عليه حكم عدة ثلاثة الأشهر ، والقاعدة أن ترتب الحكم على المشتق عليه مأمنة يدل على الاشتقاق وهو المصدر لذلك الحكم فنحو اقطعوا السارق واجلدوا الزاني يدل على علية السرقة للقطع والزنا للجلد فكذلك الآية تدل على علية الإياس لعدة ثلاثة الأشهر ، فيكون الواقع من الأشهر قبل كمال التسعة للمرتابات وإن كان دالا على براءة الرحم لا يعتد به في عدة ثلاثة الأشهر لوقوعه قبل سببها فيتعين استئناف ثلاثة بعد تحقق السبب الذي هو الإياس .

وأما المطلقات تمضي لهن ثلاثة أشهر بعد الطلاق وقبل العلم به والمتوفى عنهن أزواجهن يمضي لهن أربعة أشهر وعشر بعد الوفاة وقبل علمهن بها فإنهن وإن لم يعلمن بأن تلك الآجال عدد وقعت بعد أسبابها التي هي الوفاة والطلاق إلا إنهن يعتددن بتلك الآجال في عددهن ؛ لأن العلم ليس بسبب إجماعا ، والسبب إنما هو الوفاة والطلاق ، وقد وقعت تلك الآجال بعده فظهر سر الفرق بين البابين والتباين بين القاعدتين على مذهبي مالك وأحمد بن حنبل رحمهما الله ، وأما أبو حنيفة والشافعي والجمهور فقال حفيد ابن رشد في بدايته إنهم صاروا إلى ظاهر قوله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } والتي هي ليست من أهل الحيض ليست بيائسة .

وهذا الرأي فيه عسر وحرج ، ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها وكان قوله إن ارتبتم راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك عليه فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية فإنه فهم من اليائسة هنا من انقطع على أنها ليست من أهل الحيض ، وهذا لا يكون إلا من قبل السن ولذلك جعل قوله تعالى { إن ارتبتم } راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض أي إن شككتم في حكمهن ، ثم قال في التي تبقى تسعة لا تحيض وهي في سن من تحيض إنها تعتد بالأشهر ، وأما إسماعيل وابن بكير من أصحابه أي مالك فذهبوا إلى أن الريبة ها هنا في الحيض وأن اليائس في كلام العرب هو ما لم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع فطابقوا بتأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك ونعم ما فعلوا ؛ لأنه فهم ها هنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن أعني سن اليائس وإن فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي قطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر وهو قياس قول أهل الظاهر ؛ لأن اليائسة في الطرفين ليست هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور ، وأما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان ا هـ ، والله أعلم .




الخدمات العلمية