الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 682 ] سنة أربعين من الهجرة النبوية

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها كان مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، على ما سنذكره مفصلا إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : فمما كان في هذه السنة من الأمور الجليلة ، توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز ، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة - هو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش ، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة وعامل علي عليها يومئذ أبو أيوب الأنصاري ، ففر منهم أبو أيوب ، فأتى عليا بالكوفة ، ودخل بسر المدينة ، ولم يقاتله أحد ، فصعد منبرها فنادى على المنبر : يا دينار ، ويا نجار ، ويا زريق ، شيخي شيخي ! عهدي به هاهنا بالأمس ، فأين هو ؟ يعني عثمان بن عفان ، ثم قال : يا أهل المدينة ، والله لولا ما عهد إلي معاوية فيكم ما تركت بها محتلما إلا قتلته . ثم بايع أهل المدينة ، وأرسل إلى بني سلمة ، فقال : والله ما لكم عندي من أمان ولا [ ص: 683 ] مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ، يعني حتى يبايعه ، فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال لها : ماذا ترين ؟ إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة . فقالت : أرى أن تبايع ، فإني قد أمرت ابني عمر ، وختني عبد الله بن زمعة ; وهو زوج ابنتها زينب أن يبايعا ، فأتاه جابر فبايعه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وهدم بسر دورا بالمدينة ، ثم مضى حتى أتى مكة ، فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله ، فقال له بسر : ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ذلك . فخلى عنه ، وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة ، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس ، ففر إلى الكوفة حتى لحق بعلي ، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فلما دخل بسر اليمن قتله ، وقتل ابنه ، ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس ، وفيه ابنان له صغيران ، فقتلهما وهما ; عبد الرحمن وقثم ، وقيل : إنه ذبحهما بين يدي أمهما ، فزاغ عقلها ووسوست مما رأت ، فكانت بعد ذلك تقف في المواسم مبهوتة زائغة العقل ، تندب ولديها . ويقال : إن بسرا قتل في مسيره هذا خلقا من شيعة علي ، وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير ، وفي صحته عندي نظر ، [ ص: 684 ] والله تعالى أعلم . ولما بلغ عليا خبر بسر ، وجه جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، فسار جارية حتى بلغ نجران ، فحرق بها ، وقتل ناسا من شيعة عثمان ، وهرب بسر وأصحابه فأتبعهم حتى بلغ مكة . فقال لهم جارية : بايعوا ! فقالوا : لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين ! فلمن نبايع ؟ فقال : بايعوا لمن بايع له أصحاب علي ، فتثاقلوا ثم بايعوا حين خافوا . ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه ، فقال جارية : والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه . ثم قال لأهل المدينة بايعوا الحسن بن علي ، فبايعوا وأقام عندهم يوما ، ثم خرج منصرفا إلى الكوفة ، وعاد أبو هريرة يصلي بهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها ، على وضع الحرب بينهما ، وأن يكون ملك العراق لعلي ، ولمعاوية ملك الشام ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر عن زياد ، عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه ، أن معاوية كتب إلى علي : أما بعد ، فإن الأمة قد قتل بعضها بعضا بيني وبينك ، فلك العراق ولي [ ص: 685 ] الشام ، فأقره علي على ذلك . وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر ، وبعث الجيوش إلى بلاده ، واستقر الأمر على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير : وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة ، وترك العمل في قول عامة أهل السير ، وقد أنكر ذلك بعضهم ، وزعم أنه لم يزل عاملا على البصرة حتى صالح الحسن بن علي معاوية ، وأنه كان شاهدا للصلح ، كما نص على ذلك أبو عبيدة وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة ; وذلك أنه كلم أبا الأسود الدئلي - وكان قاضيا عليها - بكلام فيه غض من أبي الأسود ، فكتب أبو الأسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس ، وينال من عرضه ; بأنه تناول شيئا من أموال الناس من بيت المال ، فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك ، وحرر عليه القضية ، فغضب ابن عباس من ذلك ، وكتب إلى علي أن ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه ، [ ص: 686 ] والسلام . ثم سار ابن عباس إلى مكة مع أخواله بني هلال ، وتبعتهم قيس كلها ، وقد أخذ شيئا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفيء ، ولما سار تبعته أقوام أخر ، فلحقهم بنو تميم وأرادوا ردهم ومنعهم من المسير ، فكان بينهم بعض قتال ، ثم تحاجزوا ، ودخل ابن عباس مكة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية