الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الأمين

                                                                                      الخليفة ، أبو عبد الله محمد بن الرشيد - هارون - بن المهدي محمد ، بن المنصور ، الهاشمي العباسي البغدادي .

                                                                                      وأمه زبيدة بنت الأمير جعفر بن المنصور .

                                                                                      عقد له أبوه بالخلافة بعده ، وكان مليحا ، بديع الحسن ، أبيض وسيما طويلا ، ذا قوة وشجاعة وأدب وفصاحة ، ولكنه سيئ التدبير ، مفرط [ ص: 335 ] التبذير ، أرعن لعابا ، مع صحة إسلام ودين .

                                                                                      يقال : قتل مرة أسدا بيديه .

                                                                                      ويقال : كتب بخطه رقعة إلى طاهر بن الحسين الذي قاتله : يا طاهر ، ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا ، فكان جزاؤه عندنا إلا السيف ، فانظر لنفسك ، أو دع . يلوح له بأبي مسلم وأمثاله .

                                                                                      قال المسعودي : ما ولي للخلافة هاشمي ابن هاشمية سوى علي ومحمد الأمين .

                                                                                      وقد جعله أبوه ولي عهده ، وله خمس سنين ، وتسلم الأمر بعد موت أبيه ببغداد ، وكان أخوه الآخر وهو المأمون بمرو ، فأمر الأمين للناس برزق سنتين ، ووصل إليه البردة والقضيب والخاتم من خراسان في اثني عشر يوما في نصف الشهر ، وبايع المأمون لأخيه ، وأقام بخراسان ، وأهدى لأخيه تحفا ونفائس ، والحرث متصل بسمرقند بين رافع وهرثمة ، وأعان رافعا الترك . وفيها قتل نقفور طاغية الروم في حرب برجان .

                                                                                      وفي سنة 194 أمر الأمين بالدعاء لابنه موسى بولاية العهد بعد ولي العهد المأمون والقاسم ، وأغرى الفضل بن الربيع الأمين بالمأمون وحثه على خلعه لعداوة بينهما ، وحسن له ذلك السندي ، وعلي بن عيسى بن ماهان ، [ ص: 336 ] ثم اصطلح هرثمة ورافع بن الليث بن نصر بن سيار ، وقدما على المأمون ، ومعه طاهر بن الحسين ، ثم بعث الأمين يطلب من المأمون تقديم موسى ولده على المأمون ، ولقبه الناطق بالحق ، فأبى ذلك المأمون ، واستمال المأمون الرسول ، فبايعه سرا ، وبقي يكاتبه ، وهو العباس بن موسى بن عيسى بن موسى .

                                                                                      وأما الأمين ، فبلغه خلاف المأمون ، فأسقطه من الدعاء ، وطلب ما كتبه الرشيد وعلقه بالكعبة من العهد بين الأخوين ، فمزقه ، فلامه الألباء فلم ينتصح ، حتى قال له خازم بن خزيمة : لن ينصحك من كذبك ولن يغشك من صدقك ، لا تجسر القواد على الخلع ، فيخلعوك ، ولا تحملهم على النكث ، فالغادر مفلول ، والناكث مخذول ، فلم يلتفت ، وبايع لموسى بالعهد ، واستوزر له .

                                                                                      فلما عرف المأمون ، خلع أخاه ، وتسمى بأمير المؤمنين ، وأما ابن ماهان ، فجهزه الأمين ، وخصه بمائتي ألف دينار ، وأعطاه قيدا من فضة ليقيد به المأمون بزعمه . وعرض الأمين جيشه بالنهروان ، وأقبل طاهر في أربعة آلاف فالتقوا ، فقتل ابن ماهان ، وتمزق جيشه ، هذا والأمين عاكف على اللهو واللعب ، فبعث جيشا آخر ، وندم على خلع المأمون ، وطمع فيه أمراؤه ، ثم التقى طاهر وعسكر الأمين على همذان ، وقتل خلق ، وعظم الخطب ، ودخل جيش الأمين إلى همذان ، فحاصرهم طاهر ، ثم نزل أميره إلى طاهر بالأمان في سنة 95 . [ ص: 337 ]

                                                                                      وفيها ظهر بدمشق السفياني ، وهو أبو العميطر علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية فدعا إلى نفسه ، وطرد عامل الأمين ، وتمكن ، وانضمت إليه اليمانية ، وأهل حمص وقنسرين والساحل إلا أن قيسا لم تتابعه ، وهربوا .

                                                                                      ثم هزم طاهر جيشا ثالثا للأمين ، ثم نزل حلوان . وأنفق الأمين بيوت الأموال على الجند ولا ينفعون ، وجاءت أمداد المأمون مع هرثمة بن أعين والفضل بن سهل ، وضعف أمر الأمين ، وجبن جنده من الخراسانيين ، فجهز عبد الملك بن صالح العباسي إلى الشام ليجمع له جندا ، وبذل خزائن الذهب لهم ، فوقع ما بين العرب وبين الزواقيل فراح تحت السيف خلق منهم ، وأحاطت المأمونية ببغداد ، يحاصرون الأمين ، واشتد البلاء ، وعظم القتال ، وقاتلت العامة والرعاع عن الأمين قتال الموت ، واستمر الويل والحصار ، وجرت أمور لا توصف ، وتفاقم الأمر .

                                                                                      ودخلت سنة سبع وتسعين وفر القاسم الملقب بالمؤتمن وعمه منصور ، فلحقا بالمأمون ، ورمي بالمجانيق ، وأخذت النقوب ونفدت [ ص: 338 ] خزائن الأمين ، حتى باع الأمتعة ، وأنفق في المقاتلة ، وما زال أمره في سفال ، ودثرت محاسن بغداد ، واستأمن عدة إلى طاهر ، ودام الحصار والوبال خمسة عشر شهرا .

                                                                                      واستفحل أمر السفياني بالشام ، ثم وثب عليه مسلمة الأموي ، فقيده ، واستبد بالأمر ، فما بلع ريقه حتى حاصرهم ابن بيهس الكلابي مدة ، ثم نصب السلالم على السور ، وأخذ دمشق ، فهرب السفياني . ومسلمة في زي النساء إلى المزة .

                                                                                      وخلع الأمين خزيمة بن خازم ، ومحمد بن ماهان ، وخامرا إلى طاهر .

                                                                                      ثم دخل طاهر بغداد عنوة ، ونادى : من لزم بيته ، فهو آمن ، وحاصروا الأمين في قصوره أياما ، ثم رأى أن يخرج على حمية ليلا ، وفعل ، فظفروا به ، وهو في حراقة فشد عليه أصحاب طاهر في الزواريق وتعلقوا بحراقته ، فنقبت ، وغرقت ، فرمى الأمين بنفسه في الماء ، فظفر به رجل ، وذهب به إلى طاهر ، فقتله ، وبعث برأسه إلى المأمون ، فإنا لله ، ولم يسر المأمون بمصرع أخيه .

                                                                                      وفي تاريخنا عجائب وأشعار لم أنشط هنا لاستيعابها . [ ص: 339 ]

                                                                                      قال أحمد بن حنبل : إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على ابن علية ، فإنه أدخل عليه ، فقال له : يابن الفاعلة ، أنت الذي تقول : كلام الله مخلوق ؟ .

                                                                                      قلت : ولم يصرح بذلك ابن علية ، حاشاه ، بل قال عبارة تلزمه بعض ذلك .

                                                                                      وعاش الأمين سبعا وعشرين سنة ، وقتل في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، وخلافته دون الخمس سنين ، سامحه الله وغفر له .

                                                                                      وله من الولد : عبد الله ، وموسى ، وإبراهيم لأمهات أولاد شتى .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية