الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الحريري

                                                                                      العلامة البارع ، ذو البلاغتين أبو محمد القاسم بن علي بن [ ص: 461 ] محمد بن عثمان البصري الحرامي الحريري ، صاحب المقامات .

                                                                                      ولد بقرية المشان من عمل البصرة .

                                                                                      وسمع من أبي تمام محمد بن الحسن بن موسى ، وأبي القاسم الفضل القصباني ، وتخرج به في الأدب .

                                                                                      قال ابن افتخار : قدم الحريري بغداد ، وقرأ على علي بن فضال المجاشعي ، وتفقه على ابن الصباغ ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وقرأ الفرائض على الخبري ، ثم قدم بغداد سنة خمسمائة ، وحدث بها بجزء من حديثه وبمقاماته ، وقد أخذ عليه فيها ابن الخشاب أوهاما يسيرة [ ص: 462 ] اعتذر عنها ابن بري .

                                                                                      قلت : وأملى بالبصرة مجالس ، وعمل " درة الغواص في وهم الخواص " و " الملحة " وشرحها وديوانا في الترسل ، وغير ذلك ، وخضع لنثره ونظمه البلغاء .

                                                                                      روى عنه ابنه أبو القاسم عبد الله ، والوزير علي بن طراد ، وقوام الدين علي بن صدقة ، والحافظ ابن ناصر ، وأبو العباس المندائي ، وأبو بكر بن النقور ، ومحمد بن أسعد العراقي ، والمبارك بن أحمد الأزجي ، وعلي بن المظفر الظهيري ، وأحمد بن الناعم ، ومنوجهر بن تركانشاه ، وأبو الكرم الكرابيسي ، وأبو علي ابن المتوكل ، وآخرون .

                                                                                      وآخر من روى عنه بالإجازة أبو طاهر الخشوعي الذي أجاز لشيوخنا ، فعن الحريري قال : كان أبو زيد السروجي شيخا شحاذا بليغا ، ومكديا فصيحا ورد البصرة علينا ، فوقف في مسجد بني حرام ، فسلم ، ثم سأل ، وكان الوالي حاضرا ، والمسجد غاص بالفضلاء ، فأعجبتهم فصاحته ، وذكر أسر الروم ولده كما ذكرنا في " المقامة الحرامية " فاجتمع عندي جماعة ، فحكيت أمره ، فحكى لي كل واحد أنه شاهد منه في مسجد مثل ما شاهدت ، وأنه سمع منه معنى [ ص: 463 ] في فصل ، وكان يغير شكله ، فتعجبوا من جريانه في ميدانه ، وتصرفه في تلونه ، وإحسانه ، وعليه بنيت هذه المقامات . نقل هذه القصة التاج المسعودي عن ابن النقور عنه .

                                                                                      قلت : اشتهرت المقامات ، وأعجبت وزير المسترشد شرف الدين أنوشروان القاشاني فأشار عليه بإتمامها ، وهو القائل في الخطبة : فأشار من إشارته حكم ، وطاعته غنم .

                                                                                      وأما تسميته الراوي لها بالحارث بن همام ، فعنى به نفسه أخذا بما ورد في الحديث : كلكم حارث ، وكلكم همام فالحارث : الكاسب ، والهمام : الكثير الاهتمام ، فقصد الصفة فيهما ، لا العلمية . وبنو حرام : بحاء مفتوحة وراء ، والمشان بالفتح : بليدة فوق البصرة معروفة بالوخم .

                                                                                      قال ابن خلكان وجدت في عدة تواريخ أن الحريري صنف [ ص: 464 ] المقامات بإشارة أنوشروان ، إلى أن رأيت بالقاهرة نسخة بخط المصنف ، وقد كتب أنه صنفها للوزير جلال الدين أبي علي بن صدقة وزير المسترشد ، فهذا أصح ، لأنه بخط المصنف .

                                                                                      وفي " تاريخ النحاة " للقفطي أن أبا زيد السروجي اسمه مطهر بن سلار ، وكان بصريا لغويا ، صحب الحريري ، وتخرج به ، وتوفي بعد عام أربعين وخمسمائة ، سمع أبو الفتح المندائي منه " الملحة " بسماعه من الحريري .

                                                                                      وقيل : إن الحريري عمل المقامات أربعين وأتى بها إلى بغداد ، فقال بعض الأدباء : هذه لرجل مغربي مات بالبصرة ، فادعاها الحريري ، فسأله الوزير عن صناعته ، فقال : الأدب ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها ، فانفرد وقعد زمانا لم يفتح عليه بما يكتبه ، فقام خجلا .

                                                                                      وقال علي بن أفلح الشاعر :

                                                                                      شيخ لنا من ربيعة الفرس ينتف عثنونه من الهوس


                                                                                      أنطقه الله بالمشان كما     رماه وسط الديوان بالخرس

                                                                                      وكان يذكر أنه من ربيعة الفرس ، وكان يعبث بلحيته ، فلما رد إلى بلده ، كملها خمسين ونفذها ، واعتذر عن عيه بالهيبة .

                                                                                      وقيل : بل كره المقامة ببغداد ، فتجاهل ، وقبل صغيرا بحلقة . [ ص: 465 ] وكان غنيا له ثمانية عشر ألف نخلة .

                                                                                      وقيل : كان عفشا زري اللباس فيه بخل ، فنهاه الأمير عن نتف لحيته ، وتوعده ، فتكلم يوما بشيء أعجب الأمير ، فقال : سلني ما شئت ، قال : أقطعني لحيتي ، فضحك ، وقال : قد فعلت .

                                                                                      توفي الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة ، وخلف ابنين : نجم الدين عبد الله ، وقاضي البصرة ضياء الإسلام عبيد الله ، وعمره سبعون سنة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية