الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مذاهب العلماء في الحامل والمرضع إذا أفطرتا

السؤال

هل يجوز لامرأة في بداية حملها أن تفطر خشية على الجنين وإذا أفطرت هل عليها القضاء أو فدية إطعام مسكين أفيدونا ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فاعلم أولاً أن الحامل والمرضع لا يجوزُ لهما الفطر إلا إذا خافا ضرراً على نفسيهما أو على ولديهما، فإذا تحقق خوف الضرر إما بالتجربة وإما بإخبار طبيبٍ ثقة جاز الفطر، واختلف العلماء في الواجب عليهما إذا أفطرتا، فصح عن ابن عباسٍ وابن عمر أنهما أمرا بالفدية دون القضاء، بل جعل ابن عباسٍ الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما ممن عُني بقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ {البقرة: 184}، ووجهه من النظر إلحاقهما بالمريض الذي لا يُرجى برؤه لتكرر الحمل والرضاع، وذهب الأئمةُ الأربعة إلى وجوبِ القضاء عليها؛ لقوله تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ { البقرة: 184 } ، قالوا: وهي بالمريض الذي يُرجى برؤه أشبه فوجب عليها القضاء إذا قدرت عليه، وزاد الشافعي وأحمد إيجاب الإطعام وقدره عند الحنابلة مدٌ من بر ونصف صاع من غيره، وأما عند الشافعية فقدره مدٌّ مطلقا، يُدفع إلى مسكين عن كل يومٍ تفطره إذا كان الفطر لأجل الخوف على الجنين، وهذا القول هو أحوط الأقوال وأبرؤها للذمة، والأقيس القول الثاني، والقول الأول أقرب للآثار.

وحمل الجمهور من الشافعية والحنابلة هذه الآثار التي وجب فيها الإطعام على أنه يجبُ إضافةً إلى القضاء، وقد استوعب الموفق في المغني أقوال الفقهاء في المسألة وقرر المذهب تقريراً حسناً وذكر وجوه الأقوال وحججها، وانتصر لوجوب القضاء والإطعام إذا كان الفطر لأجل الخوف على الولد، ونحنُ نسوقُ كلامه بطوله لتتم الفائدة: «وجُمْلَةُ ذلك أن الحَامِلَ والمُرْضِعَ، إذا خَافَتَا على أنْفُسِهما، فلهما الفِطْرُ وعليهما القَضاءُ فحَسْبُ. لا نَعْلَمُ فيه بينَ أهْلِ العِلْمِ اخْتِلافًا؛ لأنَّهما بِمَنْزِلَةِ المَرِيضِ الخائِفِ على نَفْسِه.
وإن خَافَتَا على وَلَدَيْهما أفْطَرَتَا، وعليهما القَضاءُ وإطْعَامُ مِسْكِينٍ عن كلِّ يَوْمٍ. وهذا يُرْوَى عن ابْنِ عمرَ. وهو المشهورُ من مذهبِ الشَّافِعِىِّ. وقال اللَّيْثُ: الكَفَّارَةُ على المُرْضِعِ دون الحَامِلِ. وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مالِكٍ، لأنَّ المُرْضِعَ يُمْكِنُها أن تَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِها، بِخِلافِ الحامِلِ، ولأنَّ الحَمْلَ مُتَّصِلٌ بالحَامِلِ، فالخَوْفُ عليه كالخَوْفِ على بعضِ أعْضائِها. وقال عَطاءٌ، والزُّهْرِىُّ، والحسنُ، وسَعِيدُ بن جُبَيْرٍ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ: لا كَفَّارَةَ عليهما؛ لما رَوَى أَنَسُ بنُ مَالِكٍ هو رَجُلٌ [من بَنِى كَعْبٍ]، عن النَّبِىِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنَّه قال: "إنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ، وعن الحَامِلِ والمُرْضِعِ الصَّوْمَ -أو- الصِّيَامَ" واللهِ لقد قالَهما رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحَدَهما أو كِلَيْهِما. رَوَاهُ النَّسَائِىُّ، والتِّرْمِذِىُّ. وقال: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. ولم يَأْمُرْ بِكَفَّارَةٍ، ولأنَّه فِطْرٌ أُبِيحَ لِعُذْرٍ، فلم يَجِبْ به كَفَّارَةٌ، كالفِطْرِ لِلْمَرَضِ. ولَنا، قولُ اللهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. وهما دَاخِلَتَانِ فى عُمُومِ الآية. قال ابنُ عَبَّاسٍ: كانتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الكَبِيرِ، والمَرْأةِ الكَبِيرَةِ، وهما يُطِيقانِ الصيامَ، أن يُفْطِرَا، ويُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، والحُبْلَى والمُرْضِعُ إذا خافَتَا على أوْلَادِهِما، أفْطَرَتَا، وأَطْعَمَتَا. رَوَاهُ أبو دَاوُدَ. وَرُوِىَ ذلك عن ابنِ عمرَ، ولا مُخَالِفَ لهما في الصَّحابَةِ، ولأنَّه فِطْرٌ بِسَبَبِ نَفْسٍ عاجِزَةٍ عن طَرِيقِ الخِلْقَةِ، فوَجَبَتْ به الكَفَّارَةُ، كَالشَّيْخِ الهِمِّ، وخَبَرُهمْ لم يَتَعَرَّضْ لِلْكَفَّارَةِ، فكانتْ مَوْقُوفَةً على الدَّلِيلِ، كالقَضاءِ، فإنَّ الحَدِيثَ لم يَتَعَرَّضْ له، والمَرِيضُ أخَفُّ حالًا من هاتَيْنِ؛ لأنَّه يُفْطِرُ بِسَبَبِ نَفْسِه.
إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ الوَاجِبَ في إطْعَامِ المِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ، أو نِصْفُ صاعٍ من تَمْرٍ، أو شَعِيرٍ. والخِلافُ فيه، كالخِلافِ في إطْعامِ المَساكِينِ في كَفَّارَةِ الجِماعِ.
إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ القَضاءَ لازِمٌ لهما. وقال ابنُ عمرَ، وابنُ عَبَّاسٍ: لا قَضَاءَ عَليهما؛ لأنَّ الآيةَ تَنَاوَلَتْهُما، وليس فيها إلَّا الإِطْعَامُ، ولأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ والمُرْضِعِ الصَّوْمَ". ولَنا، أنَّهما يُطِيقَانِ القَضاءَ، فَلَزِمَهُما، كالحائِضِ والنُّفَساءِ، والآيةُ أوْجَبَتِ الإطْعامَ، ولم تَتَعَرَّضْ لِلْقَضاءِ، فأخَذْنَاهُ من دَلِيلٍ آخَرَ. والمُرَادُ بِوَضْعِ الصَّوْمِ وَضْعُهُ في مُدَّةِ عُذْرِهما، كما جاءَ في حَدِيثِ عَمْرِو بن أُمَيَّةَ، عن النَّبِىِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنَّ اللَّه وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ". ولا يُشْبِهَانِ الشَّيْخَ الهِمَّ، لأنَّه عاجِزٌ عن القَضاءِ، وهما يَقْدِرَانِ عليه. قال أحمدُ: أذْهَبُ إلى حَدِيثِ أبى هُرَيْرَةَ. يعنى ولا أقولُ بِقَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ وابنِ عمرَ في مَنْعِ القَضاءِ.» انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني