الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تفسير قوله تعالى: إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه

السؤال

لقد صادفت هذه الشبهة، وأرجو الرد عليها جزاكم الله كل خير.
يقول الله تعالي: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم)
فلماذا يقول الله: "لنعلم" بينما الله يعرف المستقبل والغيب، وما في النفوس، فهو لا يحتاج إلى التمييز بين من يتبع الرسول، ومن ينقلب على عقبيه؛ لأنه يعرفهم بالفعل؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد أجاب الخطيب الشربيني على هذا الإشكال، فقال في السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير: فإن قيل: كيف: قال الله تعالى: لنعلم، وهو عالم بالأشياء كلها؟ أجيب: بأنه أراد به علم ظهور، وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب، إنما يتعلق بما يوجد، ومعناه أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب، ونظيره قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران، 142) وقيل: ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى؛ لأنهم خواصه، وأهل الزلفى عنده. وقيل: معناه لتمييز التابع من الناكص، كما قال الله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال، 37) فوضع العلم موضع التمييز التابع؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز، فالعلم سبب، والتمييز مسبب، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز. اهـ.

وجاء في تفسير العلامة الشيخ ابن العثيمين: قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} وهي استقبال بيت المقدس {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} : المراد علم ظهور، أو علم يترتب عليه الجزاء؛ لأن علم الله الكائن في الأزل، لا يترتب عليه الجزاء حتى يُمتحن العبد، ويُنظر؛ أو علم ظهور -أي علم بأن الشيء حصل، فيعلمه أنه حاصل؛ وأما العلم به قبل وقوعه فهو علم بأنه سيحصل؛ وفرق بين العلم بالشيء أنه سيحصل، والعلم بأنه قد حصل؛ وقد قال بعض أهل المعاني: إن {لنعلم} هنا بمعنى الماضي- أي إلا لعلمنا؛ والمعنى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، إلا لعلمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وهذا -وإن كان له وجه من حيث اللفظ؛ وهو أن يعبر بالمضارع عن الماضي أحياناً- لكنه ضعيف هنا من حيث المعنى؛ إذ لا حكمة من ذلك؛ لأنه يكون معنى الآية: وما جعلنا هذا إلا لأننا قد علمنا من يتبع الرسول، ممن ينقلب على عقبيه؛ وحينئذ يقال: إذاً ما الفائدة؟! لأنه لا يناسب أن الله ما جعل هذه القبلة إلا لأنه قد علم من يبقى على دينه، ومن لا يبقى؛ فالصواب الوجهان الأولان؛ وأحسنهما أن يكون المراد بالعلم هنا الذي يترتب عليه الجزاء؛ لأنه الواضح وليس فيه تكلف. وذكر بعض المعربين أن «نعلم» هنا ضمن معنى «نميز» بدليل قوله تعالى: {ممن ينقلب} ؛ مثل: {ليميز الله الخبيث من الطيب} [الأنفال: 37] ؛ فقالوا: إن مثل هذا التقييد يدل على أن هذا الفعل للتمييز -أي لنميز من يتبع، ممن ينقلب على عقبيه؛ وليس هذا ببعيد أن يكون الفعل ضمن معنى «نميز» مع أنه دال على العلم؛ إذ لا تمييز إلا بعد العلم؛ والفعل إذا ضمن معنى فعل آخر، فإنه يدل على معناه الأصلي، وعلى معناه المضمن. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني