الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

منازعة أقدار الله بأقدار الله مع طلب التوفيق

السؤال

عندي سؤال: وهو أني اقرأ في كتب الغرب، عن كتابة الخطط والأهداف، وأنه يجب أن يرسم الإنسان لنفسه خطة لمحاسبة نفسه، إذا تم إنجاز ما يريد، فقد فعلت هذا الأمر سابقا ووجدت أن هذا الأمر يسبب الحزن؛ بسبب عدم تحقيق المراد، وفي بعض الأحيان عدم الرضى بقدر الله، وهذا سيء، فما أسوء الحزن للمؤمن، لكن إن لم تقم بكتابة ما تريد، تجد أنك لا تنجز شيئا بل تجري كما يجري بك القدر، فأنت تقوم بالاستجابة للحدث، ويصاحب الحال إن لم تقم برسم خططك، لكن أنا لا أريد أن أعيش كالأنعام: أكل وأنام فقط، أريد أن أنجز، وأن أنفع الأمة، وأريد أن أترك أثرا ولو قليلا، فما تنصحوني فضيلتكم.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فظاهر أنك شخص عالي الهمة، حريص على الخير، وحُزنك على تخلُّف ما خطَّطت له، ليس مذمومًا مطلقًا؛ لأنه إن كان محفِّزًا لك على إحكام خططك، وعلى إكمال النقص الذي فيك؛ فهو حزنٌ إيجابيٌّ، أما إن كان مُحبِطًا، ومقعدًا لك عن العمل؛ فهو حزن سلبيٌ مذموم.
ولا شك أنَّ التخطيط الجيد من أسباب تحقيق الأهداف، وتحصيل النجاح في الحياة؛ لأنَّ من السُّنن الكونية حصول المسبَبات عند تحقق الأسباب. ولا يجوز أن يظن أحدٌ أنَّ في الحَزْم والجِدّ والأخذ بالأسباب؛ مراغمةً للقدر، ومحادة له، وأن إهمال ذلك يعني الاستسلام للقدر؛ لأن القدر سِرُّ الله تعالى، والإنسان عند ما يسعى في تحصيل الخير، والرزق، ويتخذ لذلك الأسباب؛ هو في الحقيقة مستجيب لقدر الله تعالى، فهو يفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، ويدفع القَدَر بالقَدَر؛ لأن كل ما يقع في الكون هو بقدر الله تعالى وعلمه، فالأمور كلها بيده، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن ذلك النجاح والفشل، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. وانظر الفتويين: 188171 ، 256153 .
وينبغي أن تعلم أن مجرد الأخذ بالأسباب لا يعني تحقُّق النتائج المترتبة عليها عادة؛ فقد تتخلف لمانع يعلمه الله، ولا يدركه العبد؛ ولذلك فإن المؤمن لا يثق بعمله، وإنما يطلب دائمًا التوفيق من الله تعالى. وظاهر من سؤالك أنك تعي هذا الأمر جيدًا؛ حيث إنك ختمت كلامك بما يفيد ذلك.
وإذا فاتك مقصودك الذي خططت له؛ فاحذر أن تسخط على ربك، وتعترض على القدر؛ فهذا من الخذلان، وعاقبته وخيمة، وانظر الفتويين: 152655 ، 93293 .
ونصيحتنا لك أن تستعين بالله تعالى، وتتوكل عليه، وتحسن الظن به أنه لن يخيب سعيك، وأن تكمِّل النقص الذي تجده في شخصيتك؛ فتسعى في امتلاك الأدوات، واكتساب المهارات، التي تمكنك من تحقيق أهدافك. وننصحك كذلك أن تطامن من طموحك، وأن لا تحمِّل نفسك فوق ما تستطيع، بل خطط لمستقبلك بقدر المتاح من قدراتك، وأن لا تهدر هذه القدرات فيما لا يعزز الوصول لأهدافك. واحذر من إضاعة الأوقات؛ فهي لون من ألوان العقوبة الإلهية للعبد.

قال ابن القيم في كتابه (الفوائد) - في ذكر عقوبات الذنوب -: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم وضنك المعيشة وكسف البال، تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله؛ كما يتولد الزرع عن الماء، والإحراق عن النار. انتهى. وقال أيضًا في الكتاب نفسه: إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها. انتهى.
واعلم أنَّ من أهم الحقائق بعد الإيمان أن يدرك الإنسان الغاية من خلقه، وأنَّ الواجب عليه أن يجعل مرضاة الله تعالى غاية مقصوده؛ فيجعل الحياة كلها عبادة له، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {الذاريات:56}.

وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {الحج:77}.

وقال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى {طه:84}.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني