الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          2144 - مسألة : هل تحمل العاقلة الصلح في العمد ، أو الاعتراف بقتل الخطأ ؟ أو العبد المقتول في الخطأ ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا : [ ص: 265 ] كما نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح : نا موسى بن معاوية ، نا وكيع ، نا عبد الملك بن حسين أبو مالك : عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عمر بن الخطاب ، قال : العمد ، والعبد ، والصلح ، والاعتراف في مال الجاني لا تحمله العاقلة .

                                                                                                                                                                                          وعن الشعبي - قال : اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عمدا ولا عبدا ، ولا صلحا ، ولا اعترافا .

                                                                                                                                                                                          وعن إبراهيم النخعي قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ، ولا صلحا ولا اعترافا - وعن عمر بن عبد العزيز : إلا أن يشاءوا .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي قال : لا تعقل العاقلة العمد ولا الصلح ، ولا الاعتراف ، ولا العبد .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن شهاب قال : مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من العمد إلا أن تعينه عن طيب نفس - قال مالك : وحدثني يحيى بن سعيد مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وعن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ليس على العاقلة عقل من قبل العمد إلا أن يشاءوا ذلك ، إنما عليهم عقل الخطأ .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ومالك ، وأبو سليمان ، وأصحابهم : لا تحمل العاقلة شيئا من هذا كله .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تحمل العاقلة شيئا من هذا كله ولكن تعينه ; لما روي أن عمر بن الخطاب قال : ليس لهم أن يخذلوه عن شيء أصابه في الصلح - وعن الزهري : وعليهم أن يعينوه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة غير هذا لما روي عن شعبة قال : سألت الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان عن رجل حر استقبل مملوكا فتصادفا فماتا جميعا ؟ فقالا جميعا : دية العبد على عاقلة الحر وليس على العبد شيء .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 266 ] وروي عن عطاء قال : إن قتل رجل عبدا خطأ فهو على عاقلته ، وإن قتل دابة خطأ فهو على عاقلته .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن جريج أخبرني محمد بن نصر ، والصلت : أن رجلا بالبصرة رمى إنسانا ظن أنه كلب فقتله ، فإذا هو إنسان ؟ فلم يدر الناس من قاتله ، فجاء عدي بن أرطاة فأخبره : أنه قتله فسجنه ، وكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه : إنك بئس ما صنعت إذ سجنته وقد جاء من قبل نفسه ، فخل سبيله واجعل ديته على العشيرة .

                                                                                                                                                                                          وزعم الصلت : أنه من الأزد - القاتل والمقتول - وأن القاتل كان عاسا يعس .

                                                                                                                                                                                          وقال الزهري : العبد تحمل قيمته العاقلة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لنعلم الحق فنتبعه : فنظرنا فيما احتج به من قال : لا تحمل العاقلة عمدا ، ولا عبدا ، ولا صلحا ، ولا اعترافا ؟ فوجدناهم يقولون : إن هذا قول روي عن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهما - ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة - وهذا لا حجة لهم فيه ، إذ لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به أهل القول الثاني : فوجدناهم يذكرون ما روي عن الزهري ، قال : بلغني أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكتاب الذي كتبه بين قريش والأنصار : لا تتركوا مفرجا أن تعينوه في فكاك أو عقل } والمفرج : كل ما لا تحمله العاقلة - وهذا مرسل يوجب أن تعين العاقلة فيما لم تحمل جميعه - وقد روي أيضا من عمر كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          وأما نحن فلا حجة عندنا في مرسل ، فلما لم يكن فيما احتجوا به حجة وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه من ذلك ، فبدأنا بالعمد ما ألزم فيه دية ، أو صولح فيه ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول { : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فلم يجز أن نكلف عاقلة غرامة حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله عليه السلام ، ولم يوجبها قط نص ثابت في العمد ، فوجب أن لا تحمل العاقلة العمد ، ولا الصلح في العمد .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 267 ] ثم نظرنا في الاعتراف بقتل الخطأ ، فوجدنا الله تعالى يقول { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا المقر بقتل الخطأ ليس مقرا على نفسه ; لأن الدية فيما أقر به على العاقلة ، لا عليه ، فإذ ليس مقرا على نفسه فواجب أن لا يصدق عليهم ، إلا أننا نقول : إنه إن كان عدلا حلف أولياء القتيل معه واستحقوا الدية على العاقلة ، فإن نكلوا فلا شيء لهم .

                                                                                                                                                                                          فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين ، لأنهما شاهدا عدل على العاقلة .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف [ الناس ] في هذا : فقال أبو حنيفة : والشافعي ، والأوزاعي ، والثوري : الدية على المقر في ماله .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : لا شيء عليه ، قال : وإن لم يتهم بمن أقر له أقسم أولياء المقتول ، ووجبت الدية على العاقلة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في العبد يقتل خطأ ، هل تحمل قيمته العاقلة أم لا ؟ فوجدنا من لم تحمله العاقلة لا حجة لهم إلا ما ذكرنا من أنه روي ذلك عن عمر .

                                                                                                                                                                                          وعن ابن عباس - وهو قول لم يصح عن عمر كما ذكرنا ، لأنه عن الشعبي عن عمر ولم يولد الشعبي إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بسنين ولا نعلمه أيضا يصح عن ابن عباس وقد ذكرنا قضايا عظيمة عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوها ، قد ذكرناها في غير موضع ، فالواجب الرجوع إلى ما أوجب الله تعالى عند التنازع ، إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية ، ففعلنا .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا القاسم بن زكريا نا سعيد بن عمرو نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس : { أن مكاتبا قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام أن يودى ما أدى دية الحر ، وما لا دية المملوك } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 268 ] وقد روي عن يحيى بن أبي كثير قال : إن علي بن أبي طالب ، ومروان كانا يقولان في المكاتب أنه يودى منه دية الحر بقدر ما أدى ، وما رق منه دية العبد .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحجة في الدين سمى ما يودى في قتل العبد " دية " وسماه أيضا علي بن أبي طالب - وهو حجة - في اللغة " دية " .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن النبي عليه السلام أن الدية في النفس في الخطأ على العاقلة - وصح الإجماع على أن في قتل العبد المؤمن خطأ : كفارة بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد رقبة - فصح بالنص ، والإجماع : أن ما يودى في العبد دية ، والدية على العاقلة - وبهذا نقول .

                                                                                                                                                                                          وأما الدية وسائر الأموال فلا ; لأنه لا يسمى شيء من ذلك " دية " والأموال محظورة إلا بنص ، أو إجماع - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية