( حدثنا حدثنا سفيان بن وكيع جميع بن عمر ) صوابه ( عمير ) بالتصغير أيضا ( ابن عبد الرحمن العجلي ) بكسر فسكون ( حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج ) أي : أولا ( يكنى ) بالتخفيف وجوز التشديد ( خديجة أبا عبد الله عن ابن لأبي هالة عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - سألت أبي عن سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي : عن طريقته ( في جلسائه ) أي : في حق مجالسيه من أصحابه وأحبابه ( فقال ) أي : علي ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر ) بالكسر ، وهو طلاقة الوجه والبشاشة وحسن الخلق مع الخلق ، وفي التعبير بكان ودوام البشر إشعار بأن حسن خلقه كان عاما غير خاص بجلسائه ، وفيه إيماء بأنه كان رحمة للعالمين ( سهل الخلق ) بالضم ، والسهل ضد الصعوبة أو الخشونة أما ضد صعوبته فمعناها أن خلقه الحسن ينقاد له في كل شيء أراده ، وأما ضد خشونته فمعناها أنه لا يصدر من خلقه ما يكون سبب الأذى بغير حقه ولا ينافيه ما سبق من تواصل أحزانه فإن حزنه - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب أمور الآخرة وأهوال القيامة وكيفية نجاة الأمة لا على فوت مطلوب أو حصول مكروه ، فدوام بشره محمول على ملاحظة الأمور الدنيوية الناشئة عن الأخلاق النبوية الراجعة إلى المستحسنات الدينية ( لين الجانب ) بكسر التحتية المشددة أي : سريع العطف كثير اللطف جميل الصفح ، وقيل قليل الخلاف ، وقيل : كناية عن السكون والوقار والخضوع والخشوع ( ليس بفظ ) بفتح فاء وتشديد ظاء معجمة ، وهو من الرجال سيئ الخلق قاله الجزري ، وقال الجوهري هو الغليظ ولكنه لا يلائم قوله ( ولا غليظ ) اللهم إلا أن يحمل أحدهما على فظاظة اللسان والآخر على فظاظة القلب كما قال تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ ص: 202 ] أي لتفرقوا من عندك ، والحاصل أنهما أخص مما قبلهما فاندفع ما قال ابن حجر : من أن الفظ صفة مشبهة ذكر تأكيدا أو مبالغة في المدح وإلا فهو معلوم من سهل الخلق إذ هو ضده ؛ لأنه السيئ الخلق وكذا قوله في غليظ إذ هو الجافي الطبع القاسي القلب ، وقال البيضاوي هنا أراد بالغليظ الضخم الكبير الخلق ، وقال العسقلاني : هذا موافق لقوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب ولا ينافيه قوله تعالى واغلظ عليهم ؛ لأن النفي بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به في الآية ، أو النفي محمول على طبعه والأمر محمول على المعالجة قلت : وفيه نكتة لطيفة ، وهي أنه كانت صفة الجمال من الرحمة واللين غالبة عليه حتى احتاج بمعالجة الأمر إليه ( ولا صخاب ) مر ذكره ( ولا فحاش ) سبق تحقيقه .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لا تقولوا ذلك فإن الله لا يحب الفحش ولا التفاحش ( ولا عياب ) الرواية بالعين المهملة وإن كان بالغين المعجمة أيضا مسلوبا عنه ذكره الحنفي ، وهو مبني على ما توهم من أن ( غياب ) بالغين المعجمة مبالغة غائب من غاب بمعنى اغتاب ولا وجه له لغة وعرفا ، نعم المبالغة في الصيغة بالمهملة متوجهة إلى النفي لا أن المراد به نفي المبالغة ، وقال ابن حجر : ذا عيب ، وهو مدفوع بأن المراد هنا منه أنه ليس بذي تعييب لشيء لا أنه ليس بصاحب عيب فهو مبالغة عائب ، وإنما يعدل عنه في التفسير إلى ذي عيب لئلا يلزم المحذور المذكور في صخاب نعم إن أريد بالعيب مصدر عابه المتعدي وأريد به المعنى الفاعلي صح الكلام وتم النظام لكنه موهم في مقام المرام هذا ، وقد يقال المراد منه أنه لم يكن مبالغا في عيب أحد كما أنه لم يكن مبالغا في مدح شيء .
نعم روى الشيخان أنه - صلى الله عليه وسلم - بل روي أنه ما مدح طعاما أيضا ؛ لأن مدحه وعيبه يشعران إلى حظ النفس ومن المعلوم أن هذا في المباح ، وأما الحرام فكان يعيبه ويذمه وأخذ العلماء من هذا أن ما عاب ذواقا قط ولا عاب طعاما قط إن اشتهى أكله وإلا تركه كمالح حامض قليل الملح غير ناضج ومن التمثيل بذلك الذي صرح به من آداب الطعام أن لا يعاب النووي يعلم أنه لا فرق بين عيبه من جهة الخلقة ومن جهة الصنعة وللفرق وجه ، وهو كسر قلب الصانع اللهم إن قصد تأديبه بذلك فلا بأس وعليه يحمل قول بعضهم إنما يكره ذمه من جهة الخلقة لا من جهة الصنعة ؛ لأن صنعة الله لا تعاب وصنعة الآدميين تعاب ( ولا مشاح ) بضم الميم وتشديد حاء مهملة اسم فاعل من باب المفاعلة من الشح ، وهو البخل ، وقيل أشده ، وقيل هو البخل مع الحرص ، وقيل البخل في الجزئيات والشح عام ، وقيل البخل بالمال والشح بالمال والجاه والحاصل أن - فإنه كان في غاية من الكرم والجود بتوفيق واجب الوجود ، وقال البخل بجميع أنواعه منفي عنه - صلى الله عليه وسلم ميرك : أي : لا مجادل ولا مناقش يقال تشاح علي فلان أي : تضيق ولم يذكره أهل الغريب ، قلت : ومنه قولهم لا مشاحة في الاصطلاح ، وفي نسخة صحيحة بدله ولا مداح أي : لم يكن مبالغا في مدح شيء ، وفي أخرى ولا مزاح ، والمراد : نفي المبالغة فيه لوقوع أصله منه - صلى الله [ ص: 203 ] عليه وسلم - أحيانا ( يتغافل عما يشتهي ) التغافل إرادة الغفلة مع عدم الغفلة أي : يتكلف الغفلة والإعراض عما لا يستحسنه من القول والفعل ( ولا يؤيس منه ) بضم ياء وسكون همز فياء مكسورة أي : لا يجعل غيره آيسا مما لا يشتهي ، وفي نسخة بضم الياء فسكون واو فهمزة مكسورة أي : لا يجعل غيره يائسا مما لا يشتهيه فهو من الإيئاس والماضي آيس أو أيأس على ما في التاج للبيهقي ، واليأس انقطاع الرجاء ، يقال : يئس منه فهو يائس وذلك ميئوس منه وأيأسته أنا إيئاسا جعلته يائسا ، وفيه لغة أخرى آيس وآيسه قال في المغرب فعلى يويس إن كان من إياسته فهو معتل الفاء مهموز العين وإن كان من آيسته فبالعكس ، وكلاهما صحيح ، والمعنى واحد والضمير منه راجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : لا يجعل راجيه آيسا من كرمه وجعل ابن حجر الجملة حالية حيث قال : ومع ذلك لا يؤيس منه راجيه أي : لا يصيره آيسا من بره وخيره انتهى . والتحقيق ما قدمناه ويؤيده قوله ( ولا يجيب فيه ) بالجيم من الإجابة وضمير فيه راجع إلى ما لا يشتهي ، والمعنى أنه لا يجيب أحدا فيما لا يشتهي بل يسكت عنه عفوا وتكرما ، وفي نسخة ولا يخيب بتشديد الياء المكسورة أي : ولا يجعله محروما بالكلية فقيل ضمير فيه راجع إليه - صلى الله عليه وسلم - أي : لا يخيب من رجاه كل ما ارتجاه إليه فيه ، والأظهر أنه عائد أيضا إلى ما لا يشتهي كذا ذكره ميرك ، والصحيح الأول فتأمل ، وفي نسخة بضم فكسر فتحتية ساكنة بمعناه ، وفي أخرى على وزن يبيع من الخيبة بمعنى الحرمان ، وقد ضعفت هذه النسخة لعدم استقامة المعنى إلا أن يقدر له فاعل أي : لا يخيب راجيه ، وأما قول ابن حجر : أنها ترجع للتي قبلها فوهم منه في المبنى وسهو في المعنى كما لا يخفى على أولي النهى ، ثم رأيت كلام ميرك ، وفي بعض النسخ صحح بفتح الياء من المجرد ، والظاهر أنه سهو ؛ لأن الخيبة لازم ولا يظهر معناه في هذا المقام ( قد ترك نفسه ) أي : منعها فامتنع ( من ثلاث ) أي : من الخصال الذميمة على الخصوص ، والحاصل أن ترك يضمن معنى المنع ، وقد أبعد من قال بزيادة من في التمييز أي : ترك ثلاثة نفسه إلى آخر ما تكلف وتعسف ( المراء ) أي : الجدال مطلقا لحديث ( ) فقول من ترك المراء ، وهو محق بنى الله له بيتا في ربض الجنة ابن حجر أي : مخل بالمقصود الذي هو العموم ؛ لأنه أبلغ في المدح كما هو المعلوم لا سيما والقائل مذهبه اعتبار المفهوم ، وأما ما قيل من أن هذا يشكل بقوله تعالى الجدال الباطل وجادلهم بالتي هي أحسن فكأنه نشأ من عدم فهم معنى الآية فتفسيرها كما ذكره القاضي : جادل معانديهم بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر والمقدمات الأشهر ، فإن ذلك أنفع في تسكين لهيبهم وتليين شغبهم ، وفي تفسير السلمي هي التي ليس فيها حظوظ النفس هذا مع أن الظاهر المتبادر أن المراد بالناس المؤمنون وإلا فلا يستقيم قوله الآتي ولا يذم أحدا ، وقال الحنفي : وفي بعض النسخ بدله " الرياء " قلت ولم يذكر ميرك ولا رأيناه [ ص: 204 ] أيضا في النسخ الحاضرة ، ولعله تصحيف في المبنى لعدم ملايمته في المعنى ( والإكبار ) بكسر فسكون فموحدة أي : من استعظام نفسه في الجلوس والمشي وأمثال ذلك في معاشرته مع الناس من أكبره إذا استعظم ومنه قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه فلا يحتاج إلى ما قال ابن حجر : من أن معنى الإكبار جعل الشيء كبيرا بالباطل فلا ينافيه ( ) ونحوه انتهى . أنا سيد ولد آدم
ولا يخفى أنه لم يقل هذا إلا تحديثا بنعمة المولى لا افتخارا واستعظاما بمقتضى الهوى ، وأما قول الحنفي ، والمراد : إكبار نفسه أو إكبار غيره أو إكبارهما معا ففي غير محله ؛ لأن الكلام في خصوص نفسه قال ميرك : وفي بعض النسخ " الإكثار " بالمثلثة وكذا قال الحنفي : فجعله أصلا والموحدة فرعا كما فعله ابن حجر خلاف طريق المحدثين ، والمراد به : إكثار الكلام كما هو ظاهر من سياق المرام لا طلب الكثير من مال ، ذكره ابن حجر ولا جعله كثيرا كما ذكره الحنفي ( وما لا يعنيه ) أي : ما لا يهمه في دينه ولا ضرورة في دنياه لقوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولقوله تعالى من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه والذين هم عن اللغو معرضون ( وترك الناس ) أي : ذكرهم ( من ثلاث ) فالقصد بهذه الثلاث رعاية أحوالهم كما أن القصد بالثلاث الأول مراعاة حاله وإلا فقد يندرج بعضها في بعض فاندفع قول الحنفي : يمكن جعل هذه الثلاث أيضا مما ترك نفسه منه ، لكن الأمر فيه هين ( كان لا يذم أحدا ) أي : مواجهة ( ولا يعيبه ) أي : في الغيبة أو لا يذم في الأمور الاختيارية المباحة ، ولا يعيب في الأطوار الخلقية الجبلية كالطول والقصر والسواد وأمثالها ويؤيده ما في نسخة " ولا يعيره " من التعيير ، وهو التوبيخ ، والحاصل أن التأسيس أولى من التأكيد كما هو مختار أهل التأييد فهو أولى مما اختاره ابن حجر حيث قال : لا يذم أحدا بغير حق ، ولا يلحق به عيبا لا يستحقه ، وهذا تأكيد ؛ إذ الذم والعيب مترادفان مع أن تفسيره تبعا لشارح في قوله لا يسند إلى أحد العيب يوهم أن الرواية بضم الياء في يعيبه إما من الإفعال أو التفعيل وليس كذلك ، ثم أغرب وجعل ما قدمناه من قبيل مجرد تحكم من غير معنى يساعده مع أن ما قدرناه مع ما قررنا هو المناسب لمقام مدح مثله - صلى الله عليه وسلم - فإن نفي الذم بغير حق في حقه معلوم من الدين بالضرورة وأغرب الحنفي حيث قال : العيب خلاف الإصلاح ، وظاهر ما بينهما من الفرق انتهى .
وغرابته لا يخفى ، ثم لا شك أن المجموع من المنفيين أحد الثلاث والثاني قوله ( ولا يطلب عورته ) أي : عورة أحد ، وهي ما يستحى منه إذا ظهر ، فالمعنى لا يظهر ما يريد الشخص ستره ويخفيه الناس عن الغير ، وقد أبعد ابن حجر حيث فسره بعدم تجسس عورة أحد ، فإن مقام المدح يأباه على ما بيناه ( ولا يتكلم ) والعاطفة غير موجودة في نسخة ، ولا وجه لها أي : ولا يتعلق ( إلا فيما رجا ) أي : توقع ( ثوابه ) أي : ثواب أحد من الناس ؛ لأن الكلام فيهم وما يتعلق بهم ، وعبارة ابن حجر توهم أن الضمير راجع إليه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : آثره على ما يثاب عليه ؛ لأن الأول أليق بالأدب ؛ إذ لا يتحتم على الله إنابة أحد ، وإن بلغ ما بلغ من العظم انتهى ، وأنت تعلم أنه ولو قال إلا فيما يثاب لم [ ص: 205 ] يدل على تحتم الثواب كما لا يخفى على أولي الألباب ، والله أعلم بالصواب ( وإذا تكلم أطرق جلساؤه ) أي : أمالوا رءوسهم وأقبلوا بأبصارهم إلى صدورهم وسكتوا وسكنوا ( كأنما على رءوسهم الطير ) بالرفع لكون ما كافة عن عمل ما قبلها ، والمعنى أنهم كانوا لإجلالهم إياه لا يتحركون فكأن صفتهم صفة من على رأسه طائر يريد أن يصيده فهو يخاف أن يتحرك فيوجب طيران الطائر وذهابه ، وقيل : إنهم كانوا يسكنون ، ولا يتحركون حتى يصيروا بذلك عند الطائر كالجدران والأبنية التي لا يخاف الطير حلولا بها ، ولا وقوفا عليها ، وفي النهاية وصفهم بالسكون والوقار ، وإن لم يكن فيهم طيش ، ولا خفة ؛ لأن الطائر لا تكاد تقع إلا على شيء ساكن ، وقال الجوهري : أصله أن الغراب إذا وقع على رأس البعير فيلتقط منه الحلمة والحنانة يعني : صغار القراد فلا يحرك البعير رأسه لئلا ينفر عنه الغراب لما يجد فيه الراحة انتهى .
فشبه حال جلسائه عليه السلام عند تكلمه عليهم وتبليغه الأحكام الشرعية والمواعظ الحكمية إليهم بحال ذلك البعير لكمال ميلهم وتلذذهم باستماع كلامه حتى لم يحبوا سكونه وانقطاع نطقه ، وقال بعضهم : وأصل ذلك أن سليمان عليه السلام كان إذا أمر الطير أن تظل على أصحابه غضوا أبصارهم ، ولا يتكلموا حتى يسألهم مهابة منه فإن أدب الظاهر عنوان الباطن فقيل للقوم إذا سكتوا مهابة كأنما على رءوسهم الطير ، والحاصل أن حال جلسائه معه عليه السلام اختيار السكوت والسكون وعدم الالتفات إلى غيره ( فإذا سكت تكلموا ) فيه إيماء إلى أنهم لم يكونوا يبتدئون بالكلام ، ولا يتكلمون في أثناء حديثه كما هو مقتضى الأدب ( لا يتنازعون عنده الحديث ) الجملة استئنافية أو حالية ، والمعنى لا يأخذ بعضهم من بعض عنده الحديث أو لا يختصمون عنده في الحديث ، ولذا عطف عليه عطف تفسير بقوله ( ومن تكلم عنده أنصتوا ) أي : سكتوا واستمعوا ( له ) أي : لكلام المتكلم عنده ( حتى يفرغ ) أي : المتكلم من كلامه أو من مقصوده ومرامه ( حديثهم عنده ) أي : حديث كلهم أولهم وآخرهم ( عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حديث أولهم ) أي : كحديث أولهم في عدم الملال منه أو في الإصغاء إليه إذ العادة جارية بالملال وضيق البال إذا كثر المقال ، وقيل : معناه حديثهم عنده حديث السلف ويؤيده نسخة " أولهم " بصيغة الجمع لكن ليس له كثير معنى ، وقال الحنفي : حديثهم عنده حديث أفضلهم في الدين أو أولهم قدوما انتهى ، وهو يحتمل القدوم في المجلس كما هو دأب العلماء المدرسين والمتقين من المفتين ويحتمل قدوما في الهجرة أو في الإسلام فيرجع إلى القول الأول فتأمل ، واختاره بعض المدرسين حيث إنه يقدم الأفضل فالأفضل إما في ذاته أو في عمله الذي يقرأ فيه ، وقد تعقبه ميرك بأن من أوله بأن أفضلهم أولهم قدوما فقد تعسف [ ص: 206 ] تعسفا شديدا باردا ، وقال ابن حجر : حديث أولهم أي : أفضلهم إذ كان لا يتقدم غالبا بالكلام بين يديه إلا أكابر أصحابه فكان يصغي لحديث كل منهم كما يصغي لحديث أولهم انتهى .
ولا يخفى عدم التئامه بين أول تقريره وآخر كلامه فكان حقه أن يقول : حديث جميعهم إنما كان حديث أفضلهم فإنما كانوا يكتفون بكلام أولهم ؛ لأنه أعلم بالمبنى وأفهم بالمعنى ، ثم قال : ويحتمل أن المراد أولهم إذا تكلم بشيء قبله منه وعلم أنهم موافقوه عليه غالبا لما من الله عليهم من تألف قلوبهم وكمال اتفاقهم ، قلت : فعلى هذا ينبغي أن يكون المراد بهم بقوله " أولهم " أسبقهم في الكلام لا أفضلهم في المقام لما يدل عليه تعليل المرام ( يضحك ) أي : يبتسم ( مما يضحكون منه ) أي : بالمشاركة في استحسان الأحوال ( ويتعجب مما يتعجبون ) أي : منه كما في نسخة أي : في استغراب الأفعال فكأنه أخذ من هذا من قال : ( ويصبر للغريب ) أي : لمراعاة حاله ( على الجفوة ) بفتح الجيم ، وقد يكسر على ما في القاموس أي : على الجفاء والغلظة وسوء الأدب مما كان يصدر من جفاة الأعراب ، وقد ورد " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " ( في منطقه ومسألته ) الضميران للغريب ، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصبر للغريب إذا جفاه في مقاله وسؤاله ( حتى أن ) مخففة من الثقيلة أي : إلى أن ( كان أصحابه ليستجلبونهم ) أي : يتمنون مأتى الغرباء إلى مجلسه الأقدس ، ومقامه الأنفس ؛ ليستفيدوا بسبب أسئلتهم ما لا يستفيدونه في غيبتهم ؛ لأنهم حينئذ يهابون بسؤاله ، والغرباء لا يهابون فيسألونه عما بدا لهم ليجيبهم ، وقيل : المعنى يجيئون معهم بالغرباء في مجلسه من أجل احتماله عنهم وصبره على ما يكون في سؤالهم إياه منهم ؛ لأن أصحابه كانوا ممنوعين عن سؤاله ذكره في المنتقى ، ولعل المراد نهيهم عن كثرة السؤال كما في الأربعين عن من بدا جفا مرفوعا ( أبي هريرة ) . ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم
قال ميرك : لكن معنى الغاية التي فهمت من حتى لا [ ص: 207 ] يلايم هذا المعنى إلا بتكلف انتهى .
وهو غريب منه في هذا المبنى ، وقيل المعنى أن أصحابه يستجلبون خواطر الغرباء لما رأوا من صبره لهم وكثرة احتماله عنهم وزيادة ملاحظة حالهم ، قيل ويحتمل أن يكون المراد بالاستجلاب جذبهم عن مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنعهم من الجفاء وترك الأدب قلت هذا بعيد رواية ودراية .
وقال الحنفي : المراد بالاستجلاب جلب نفعهم أو جلبهم إلى مجلسه المقدس أو جلب قلوبهم قال ميرك : وأما ما يقال : المراد بالاستجلاب جلب نفعهم أو جلبهم إلى مجلسه المقدس أو جلب قلوبهم قال ميرك : وأما ما يقال : المراد بالاستجلاب جلب نفعهم فليس له معنى قلت اللهم إلا أن يقال المراد نفع الغرباء لأنفسهم أو للصحابة في أمور دينهم ، وأما قوله : جلب قلوبهم فلا يعرف هذا من دأبهم إلا أن يراد بجلبها جذبها بالإمالة فيرجع إلى ما قبله في المعنى ( ويقول ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا رأيتم طالب حاجة ) أي : دينية أو دنيوية ( يطلبها ) جملة حالية ( فأرفدوه ) من الإرفاد أي : أعينوه على طلبته وأعينوه على بغيته ( ولا يقبل الثناء ) أي : المدح ( إلا من مكافئ ) بالهمز أي : مقارب في مدحه غير مجاوز به عن حد مثله ، ولا مقصر به عما رفعه الله إليه من علو مقامه ، ألا يرى أنه قال ( عيسى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله ) . لا تطروني كما أطرت النصارى
فإذا قيل هو نبي الله أو رسول الله فقد وصفه بما لا يجوز أن يوصف به غيره فهو مدح مكافئ له يقال : هو كفئوه أي : مثله ، وقال ميرك : فالمراد : مكافأة الواقع ومطابقته ، وقيل المعنى أنه لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه من المخلصين الذين طابق لسانهم جنانهم ، ولا يدخل عنده في جملة المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإذا كان المثنى عليه بتلك الصفة وكان مكافئا ما سلف من نعمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وإحسانه إليه قبل ثناءه وإلا فأعرض عنه ، ولا يخفى بعد هذه الإشارة عن هذه العبارة قال ميرك : فالمكافئ بمعنى المماثل له في أصل الإيمان ، وقيل معناه أنه إذا أنعم على رجل نعمة فكافأه قبل ثناءه ، أثنى عليه قبل أن ينعم عليه لم يقبل ، فالمماثل حينئذ بمعنى المجازي قال ميرك : وهذا بعيد وخطئ قائله قال ابن حجر : بأن أحدا لا ينفك من نعمته - صلى الله عليه وسلم - فالثناء عليه فرض عين انتهى .
ولا يخفى أن الكلام إنما هو في المنة الصورية لا في النعمة المعنوية ، فالمراد : به أن المثني إذا قال مثلا أنه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكرم والجود وليس مثله موجودا في الوجود فإن سبق له إحسان إليه وإنعام عليه قبل منه هذا المدح والثناء ، وإلا فأعرض عنه ولم يلتفت إلى قوله عملا بقوله سبحانه وتعالى ذما لقوم لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا هذا ، وفي النهاية نسب هذا القول إلى القتبي وتغليطه إلى ( ولا يقطع على أحد حديثه ) أي : حديث أحد لا حديث نفسه كما توهمه ابن الأنباري الحنفي لما يرد عليه قوله ( حتى يجوز ) هو بالجيم والزاي أي : يتجاوز عن الحد أو يتعدى عن الحق وفي نسخة صحيحة بالجيم والراء من الجور والميل قال الحنفي : وفي نسخة بالحاء المهملة والزاي أي : يجمع ما أراده المتكلم انتهى .
والظاهر أنه تصحيف لعدم مناسبته [ ص: 208 ] لقوله ( فيقطعه ) هو بالنصب على ما في أصل السيد ، وفي بعض النسخ بالرفع ، وهو الظاهر أي : فيقطع عليه السلام حينئذ حديث ذلك الأحد ( بنهي ) أي : له عن الحديث ( أو قيام ) أي : عن المجلس هذا ، وقاله ميرك ، قوله ( حتى يجوز ) كذا وقع في أصل السماع بالجيم والزاي وصحح في الوفاء بالجيم والراء ، وهو المعتمد وصحح في بعض نسخ الوفاء بالحاء المهملة الزاي ، وهو بعيد جدا فالمعتمد الأول ، والله أعلم .