5- تضمين الخطاب مفردات الحياة المعاشة:
كثيرا ما تجد من يغلب على خطابه أسلوب الترهيب والترغيب، أو حديث الثواب والعقاب لتتوقف مهمته عند قيادة الناس إلى العالم الآخر، ويدير ظهره لعالم الشهادة، ويستمر حديث الدنيا مقرونا بعبارات الذم والتحقير، وأفضل من الإقبال عليها أن تترك شاغرة للشيطـان وأوليائه، وهو ما حدث فعـلا، فكثيرا ما كان العلماء والمصلحون يساهمون في قيادة الثورات ضد الظلم ثم يترك الحكم لمن هم أكثر ظلما، حتى صار الإسلاميون يتهمون بأنهم يريدون الوصول إلى سدة الحكم، فينفون ذلك بشدة، وكأن الحكم حقوق محفوظة لغيرهم.
أما الدين فإنه جعل القيام بشؤون الدنيا جزءا من العبادة، يدل على ذلك الأمر المذكور في الآية: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ) (الملك:15)، ومن معاني التسليم لله عز وجل العمل بسنة التسخير: ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية:13)، وربط المولى بين عبادته [ ص: 119 ] ومواجهة احتيـاجات النـاس الحياتية: ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) (المائدة: 66)، ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) (الحج:28)، وشواهد الباب أكثر من أن تحصى.
وقد كان من ضمن رسالة الأنبياء تبصير الإنسان بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها، واكتشاف ما أودع الله له من قوانين التسخير: ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها .. ) (هود:61)، ( واستعمركم فيها ) طلب منكم عمارتها، وقد جاءت الكتب السماوية دساتير منظمة للحياة، لعلاقة الإنسان مع نفسه، ومع خالقه، والكون من حوله، وما من نبي إلا وزاول حرفة خاصة يعول بها أهله كسائر الناس.
فمن الحكمة أن تتضمن لغة الخطاب الدعوي مفردات المنافع الدنيوية، ومشتملة على الحياة ومظاهرها، وكما نجدها من استقراء الآيات الكريمة مثل: (إعمار، تسخير، قوة، أموال، بنين، أمطار، أنهار، زراعة، جنان، وحتى المستلزمات البسيطة)، وقد أخطأت العلمانية والفكر اللاديني عموما عندما أطلقوا على الدين أفيون الشعوب، ظنا منهم أنه يدعو للانكفاء وترك عمارة الدنيا وحراثتها، مع أن القرآن دعوة مستمرة خالدة لقيام الإنسان بتحقيق [ ص: 120 ] سيادته على الكون، وبسط يده على ما أودع الله له فيه من المكنونات فصار العمل جزءا من عبادة الله، يثاب الإنسان عليها ويأثم بتركها، وقد استمر فهم المسلمين لدينهم على هذا النحو؛ لأن العمل وتدبير شؤون الحياة شرط من شروط الاستخلاف من أجل استمرار المسيرة الإنسانية.
وعند التأمل في خطاب الأنبياء لأقوامهم، سنجد الحياة ومفرداتها، واحتياجات الناس داخلة في أدوات التبليغ: ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ) (هـود:52)، "أي: شـدة مع شـدتكم. وذلك أن الله عز وجل حبس عنهم القطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم فلم يلدن، فقال لهم هود، عليه السلام: إن آمنتم (بالله وحده وصدقتموني) أرسل الله عليكم المطر فتزدادون مالا، ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت فيلدن، فتزدادون قوة بالأموال والأولاد. وقيل: تزدادون قوة في الدين إلى قوة في البدن" [1] ، وفي هذا دعوة صريحـة للإنسان للعمـل، وتقدير لنـزوعه إلى امتلاك وسائل القوة، وإلى حيازة المال، والجاه، والبنين، وسائر عناصر الحياة ومقوماتـها، ولأن قوم هود كانوا أصحاب زرع وبساتين وأهل قوة جاءهم هود، عليه السلام، من ناحية دنياهم.
قال صاحب الكشاف: "كان قوم هود، عليه السلام، أصحاب زروع وبساتين وعمارات حراصا عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. [ ص: 121 ] وكانوا مـدلين بما أوتوا من شدة القوة والبطش والبأس والنجدة مستحرزين بها من العدو مهيبين في كل ناحية" [2] .
وهذا نوح، عليه السلام، يتحدث مع قومه بلغة الدنيا وحاجياتها: ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) (نوح:10-12)، قال الإمام الطبري: "قال ذلك لهم نوح, لأنهم كانوا فيما ذكر قوم يحبون الأموال والأولاد. عن قتادة, قوله: ( ثم إني دعوتهم جهارا ... ) إلى قوله: ( ويجعل لكم أنهارا ) قال: رأى نوح قوما تجزعت أعناقهم حرصا على الدنيا, فقال: هلموا إلى طاعة الله, فإن فيها درك الدنيا والآخرة" [3] .
إن حب الدنيا ومتاعها ميل غريزي فطري، من الخطأ تجاهله، والتعلق بمتاع الحياة إذا لم يؤد إلى طغيان وخلل في التصور لا بأس به في الدين، فقد رأينا من النصوص السابقة مفردات الحياة النابضة، ولغة عملية تجسد حركة الواقع وتعمد إلى ضبطه وتوجيه مساره، ولا تمانع من التجاوب مع الميول الغريزية للإنسان نحو التمتع بطيبات الحياة الدنيا، ويكون التعاطي مع الحياة الدنيا وزينتها وفق موجهات سماوية كفيلة أن تحفظ للحياة توازنها، ولا ينساق الإنسـان في الانحرافات المدمرة، إذ أن معرفة ما يصلح الخلق وما يفسدهم ليس لأحد غير الخالق سبحانه، وتلك هي العلاقة الجدلية بين الدين والناس المحكومة بالمصلحة والنفع. [ ص: 122 ]
إن نظرة الناس إلى مسألة الإقبال على الدنيا واقعة بين الإفراط والتفريط، فمن يرى أن الدنيا فرصة لا تتكرر ومن حق الإنسان أن يتمتع بما قدر عليه، وأن المحرم الوحيد هو الذي لا سبيل للوصول إليه، وآخر ارتبط مفهوم الالتزام في ذهنه بذم الدنيا وزينتها فصار بطريقة أو بأخرى يلزم الناس ما لا يلزم، ويرفع المباح من نعيم الدنيا إلى درجة المكروه، والمكروه إلى درجة المحرم، والله يقول: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) (الأعراف:32).
وهذا كمن يشهد أن الدين والدنيا على طرفي نقيض، وأن ملخص الواجب الديني يتوقف عند الصد عن الإقبال على الدنيا، وكيل الشتائم لمتعها وملذاتها، وترغيب الناس في الانقطاع والتبتل بحجة الزهد، وليس هذا من الزهد في شيء، فالزهد أن تملك الدنيا إن ملكتها لتجعلها في يدك لا في قلبك، تصرفها أنت لا تصرفك هي، وأن تأخذ الشيء من حلـه وتضعه في محله.