أما اللسان : فلأنه منطلق بالطبع ، ولا مؤنة عليه في الحركة ، وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق والأطعمة ، واللعن ، والدعاء على الأعداء ، والمماراة في الكلام ، وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير ، وتكرار العلم والتعليم ، وإرشاد عباد الله إلى طريق الله ، وإصلاح ذات البين ، وسائر خيراته ، فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر ، فنطق المؤمن ذكر ، ونظره عبرة ، وصمته فكرة ، و آفات اللسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وأما البطن فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال .
واجتناب الشبهات ، ويمنعه من الشهوات ، ويقتصر على قدر الضرورة .
ويشرط على نفسه أنها إن خالفت شيئا من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ؛ ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها .
هكذا يشرط ، عليها في جميع الأعضاء ، واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصي الأعضاء وطاعاتها .
، ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة ، ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها ، ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها .
وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم . ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياما ، وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها ، استغنى عن المشارطة فيها ، وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقي ، ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد ، وواقعة حادثة ، لها حكم جديد ، ولله عليه في ذلك حق ، ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس ؛ إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جديدة ، يحتاج إلى أن يقضي حق الله فيها ، فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها ، والانقياد للحق في مجاريها ، ويحذرها مغبة الإهمال ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
فهذا وما يجري مجراه هو أول مقام وهي محاسبة قبل العمل . المرابطة مع النفس ،
والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وهذا للمستقبل .
وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة .
فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة ، وقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ذكر ذلك تحذيرا وتنبيها للاحتراز منه في المستقبل .
وروى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه : إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه ، وإن كان غيا فانته عنه .
وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن يكون العقل غالبا للهوى فلا تعمل بقضاء الشهوة حتى تنظر العاقبة ؛ فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة . وقال لقمان إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة ، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : شداد بن أوس دان نفسه : أي حاسبها ويوم الدين يوم الحساب وقوله " الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله أإنا لمدينون أي : لمحاسبون .
وقال رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى عمر حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة . أبي موسى الأشعري
وقال لكعب كيف تجدها في كتاب الله ؟ قال : ويل لديان الأرض من ديان السماء ، فعلاه بالدرة ، وقال : إلا من حاسب نفسه ، فقال كعب يا أمير : المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه .
وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال من دان نفسه يعمل لما بعد الموت .
ومعناه : وزن الأمور أولا ، وقدرها ، ونظر فيها ، وتدبرها ، ثم أقدم عليها فباشرها .