أحدهما : أن يعلم الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليكون الفصل بين الناس به ، مثال ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( 5 : 1 ) ، فهو يوجب علينا أن نوفي بما نتعاقد عليه ، وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( 2 : 188 ) ، الآية ، وهو قد حرم أكل أموال الناس ورشوة الحكام ، وكذلك ما ورد في السنة المتواترة من أحكامه وقضائه صلى الله عليه وآله وسلم ، فيجب على الحاكم تطبيق أحكامه على ما علم من حكم الله ورسوله ، وقد يكون التطبيق ظاهرا ، وقد يحتاج فيه إلى قياس واستنباط وإجهاد للفكر ، فهذا النوع من العدل معروف عند الناس وإنما يذكر لتنبيه الناس وتذكيرهم .
والركن الثاني للعدل - هكذا عبر تارة بالنوع وتارة بالركن - يتألف من أمرين :
( أحدهما ) : فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضع ما به التنازع [ ص: 140 ] والتخاصم بأدلته من الخصمين .
( ثانيهما ) : استقامة الحاكم وخلوه من الميل إلى أحد الخصمين ، ومن الهوى بأن يكره أحد الخصمين ، وإن كان لا يميل إلى الآخر ، وهذا المعنى معروف للناس أيضا ، فكل من ركني العدل معروف ، ولذلك ذكر الله العدل ولم يفسره ; لأنه معروف بنفسه كالنور .
ولك ـ وقد فهمت ما قلناه ـ أن نقول : ، ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة الركنين اللذين بيناهما فكل ما خرج عنهما فهو ظلم ، فإذا أخر القاضي النظر في القضية اتباعا لرسوم وعادات لا يتوقف عليها إقامة العدل ، أو لم يقبل الشهادة ؛ لأنها لم تؤد بألفاظ مخصوصة ، وإن تبين بها الحق المراد ، أو أخر الحكم بعد انتهاء المحاكمة ، واستيفاء أسبابها هل يكون مقيما للعدل ؟ ( قال الأستاذ : هذا في الدرس فضج الحاضرون بقول : لا لا ) إذا علمنا هذا وتأملنا في الأحكام التي تجري عندنا اليوم فهل نراها جارية على أصول العدل ( قالوا : لا لا ) . العدل عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه
نجد محاكمنا الشرعية تشترط في توجيه الدعوى ، وفي شهادة الشهود شروطا وألفاظا معينة كلفظ : أشهد ، ولفظ هذا أو المذكور وتبيين النقد وذكر البلد الذي ضرب فيه وإن كان ذلك مفهوما من الكلام لا يختلف في فهمه القاضي ولا الخصم ، فهذه الاصطلاحات كثيرا ما تحول دون العدل إذ ترد الدعوى من أصلها أو الشهادة لعدم موافقتها للألفاظ المصطلح عليها وإن أدت معناها ، وكذلك كل ما يحول بين الناس وفهم الشريعة يكون من أسباب إضاعة العدل ، ولا عذر للناس بالجهل إذ يجب عليهم فهم الشريعة وإزالة كل ما يحول دون فهمها من الاصطلاحات ، ولو كنا نقيم العدل لما كنا في هذه الحالة من الضعف وسوء الحال .
ثم قال الأستاذ في درس آخر : إنه اطلع بعد الدرس الأول ـ الذي لخصناه بما رأيت ـ على كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية ، فإذا هو كله مبني على هذه الآية ، فإنه توسع في ذكر أنواع الأمانة التي أودعها الله في أيدي الحكام ، ومنها ألا يولوا الأمور إلا خيار الناس الصالحين لها ، وأورد في ذلك أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور ـ أي برواية البخاري له ـ " " ، أي : ساعة قيامة الأمة وهلاكها ; لأن لكل أمة ساعة ، أي : وقتا تهلك فيه أو يذهب استقلالها . إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة
أقول : إن معنى الآية لم يتجل تمام التجلي فيما ذكرناه ، فلا بد من زيادة البيان ونفصله في مسائل .
المسألة الأولى : في : معنى الأمانة
الأمانة ما يؤمن عليه الإنسان من الأمن وهو طمأنينة النفس ، وعدم الخوف يقال : أمنته ـ كسمعته ـ على الشيء : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ( 12 : 64 ) ، [ ص: 141 ] ويقال : أمنها بكذا ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ( 3 : 75 ) ، ويقال : ائتمن فلانا ، أي : عده أو اتخذه أمينا ، وائتمنه على الشيء كأمنه عليه فليؤد الذي اؤتمن أمانته ( 2 : 283 ) ، وكل أمانة يجب حفظها ، ومنها ما يحفظ فقط كالسر ، وفي الحديث المرفوع : ، رواه إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة أحمد وأبو داود والترمذي والضياء عن جابر ، وأبو يعلى في مسنده عن أنس ، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته ، ومنه يعلم أن كل ما يدل على الائتمان من قول وعمل ، وعرف وقرينة يجب اعتباره والعمل به ، وتقدم تصريح الأستاذ الإمام بذلك ، ومنها ، أي ـ الأمانة ـ ما يحفظ ليؤدى إلى صاحبه سواء كان هو الذي ائتمنك عليه أو غيره لأجله ، ويسمى ما يحفظ الأمانة ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيا ، ويسمى من لا يحفظها أو لا يؤديها خائنا يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ( 8 : 27 ) ، فمن خان عالما كان من العصاة ، ووجب عليه الضمان .
المسألة الثانية : في : معنى العدل
العدل ـ بالفتح والكسر ـ المثل ، والعديل : المثيل قاله ابن الأثير وغيره ، قال في لسان العرب : وفلان يعدل فلانا أي يساويه ، ويقال ما يعدلك عندنا شيء ، أي : ما يقع عندنا شيء موقعك ، وعدل المكاييل والموازين سواها ، وعدل الشيء يعدله عدلا وعادله وازنه ، وعادلت بين الشيئين وعدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما ، وتعديل الشيء تقويمه ، وقيل : العدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه تجعله له مثلا ، والعدل والعدل والعديل سواء ، أي : النظير والمثيل ، وقيل : هو المثل وليس بالنظير عينه ، وفي التنزيل : أو عدل ذلك صياما ( 5 : 95 ) ، قال مهلهل :
على أن ليس عدلا من كليب إذا ظهرت مخبأة الخدور
والعدل ـ بالفتح ـ أصله مصدر قولك : عدلت بهذا عدلا حسنا ، نجعله اسما للمثل ؛ لتفرق بينه وبين عدل المتاع كما قالوا : امرأة رزان ، وعجز رزين للفرق ( ثم قال ) : والعدل بالكسر : نصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير ، وقال الأزهري : العدل اسم حمل معدول يحمل آخر مسوى به ، والجمع أعدال وعدول عن ، ثم قال : العديلتان الغرارتان ; لأن كل واحدة منهما تعادل صاحبتها ، سيبويه : يقال عدلت الجوالق على البعير أعدله عدلا ، يحمل على جنب البعير ويسوى بآخر ، الأصمعي : العدل ـ محرك ـ تسوية الأونين وهما العدلان ، ويقال : عدلت أمتعة البيت إذا جعلتها أعدالا مستوية للاعتكام يوم الظعن ، والعديل الذي يعادلك في المحمل اهـ . ابن الأعرابي[ ص: 142 ] وهذا الذي ذكره عن أهل اللغة الأولين هو المستعمل في كلام المعاصرين في الجزيرة وسورية ، وغيرهما ، ومنه يعلم أن العدل في الحكم بين الناس هو تحري المساواة والمماثلة بين الخصمين بألا يرجح أحدهما على الآخر بشيء قط ، بل يجعلهما سواء كالعدلين على ظهر البعير أو غيره ، فالعدل المأمور به معروف عند أهل اللغة وليس معناه الحكم بما ثبت في الشرع ; فإن هذا ثابت بدليل آخر ، وكل ما ثبت في الشرع من ذلك موافق للعدل ، وليس هو عين العدل ، بل العدل يكون بالعمل به وتطبيقه على الدعوى بحيث يصل إلى كل ذي حق حقه ، وقد أمر الله تعالى بالعدل مطلقا في بعض السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعية ، وما كل المسائل التي يتعامل بها الناس ويتخاصمون فيها قد بينت أحكامها في الكتاب والسنة ، فما بين فيهما كان خير عون على العدل المقصود منهما ، وما لم يبين يجب على الحكام أن يتحروا فيه المساواة بقدر طاقتهم التي يصل إليها اجتهادهم ، وسيأتي في الآية التالية بيان ما يجب من اتباع أحكام الله ورسوله فيما حكما به ، وبيان ما يجب فيما لم يحكما به .
قال الرازي : قال رضي الله تعالى عنه : الشافعي في خمسة أشياء : في الدخول عليه ، والجلوس بين يديه ، والإقبال عليهما ، والاستماع منهما ، والحكم عليهما ، قال : والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب ، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه ; لأنه لا يمكنه التحرز عنه . ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين
قال : ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته ; لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار ، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر ; لأن ذلك يكسر قلب الآخر ، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين ، وروي ، وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه ، وحاصل الأمر فيه : أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وألا يمتزج ذلك بغرض آخر ، وذلك هو المراد بقوله تعالى : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ( 4 : 58 ) ، اهـ .
المسألة الثالثة : أنواع الأمانة :
الأمانة على أنواع ; ولذلك جمعت في الآية وفي سورة الأنفال بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله وتخونوا أماناتكم ( 8 : 27 ) ، وسورة المؤمنون والمعارج بقوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( 23 : 8 ، 70 : 32 ) ، وقد ذكرنا عن الأستاذ الإمام أمانة العلم ، وأمانة المال ، وجعلها بعضهم ثلاثا :
( إحداها ) : وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء [ ص: 143 ] عما نهاه عنه ، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه ، فالمعاصي كلها خيانة لله عز وجل ، وقد ورد في المأثور ما يدل على ذلك . أمانة العبد مع الرب
ثانيها : ( ) ويدخل فيها رد الودائع وعدم الغش في شيء من الأشياء ، وحفظ السر وغير ذلك مما يجب لآحاد الناس ، وللحكام ، وللأهل والأقربين ، قال أمانة العبد مع الناس الرازي : ويدخل في هذا القسم " عدل الأمراء مع رعيتهم ، وعدل العلماء مع العوام بألا يحملوهم على التعصبات الباطلة ، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم " ، فعلى هذا يكون العلماء الذين يعلمون العامة مسائل الخلاف التي تثير التعصب بينهم ، والذين لا يعلمونهم ما ينفعهم في دنياهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال ، وما ينفعهم في آخرتهم من المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنفرهم من الشرور وترغبهم في الخيرات ، كل أولئك العلماء من الخائنين للأمة ، وهذا القسم يمكن أن يقسم إلى أقسام ، فيجعل رعاية أمانة الحكام قسما ، ورعاية أمانة الأقربين من الأصول والفروع والحواشي قسما ، ورعاية أمانة الزوجية والصهر قسما ، ومنها ألا يفشي أحد الزوجين سر الآخر ، ولا سيما السر الذي يختص بهما ، ولا يطلع عليه عادة منهما سواهما ، ورعاية أمانات سائر الناس قسما .
ثالثها : ( ) وعرفها أمانة الإنسان مع نفسه الرازي بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وألا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة .
أقول : ومن ذلك الذي أجمله توقي الإنسان لأسباب الأمراض والأوبئة بحسب معرفته ، وما يستفيده من الأطباء ، وذلك يدل على أن رعاية هذا النوع من الأمانة يتوقف على تعلم ما يحتاج إليه من علم حفظ الصحة ولا سيما في أيام الأمراض الوبائية المنتشرة ، مثال ذلك : أنه قد عرف بالتجارب نفع بعض ما يعمل للوقاية من المرض كتلقيح الجدري ، ومن ذلك التداوي عند وقوع المرض ، وتفصيل رعاية هذه الأمانات يطول ، وسنعيد البحث فيها عند تفسير تلك الآيات إن أنسأ الله في العمر .
المسألة الرابعة : قدم الأمر بأداء الأمانات على الأمر بالعدل ; لأن العدل في الأحكام يحتاج إليه عند الخيانة في الأمانات التي تتعلق بحقوق الناس والتخاصم إلى الحاكم ، والأصل أن يكون الناس أمناء يقومون بأداء الأمانات بوازع الفطرة والدين ، والخيانة خلاف الأصل ، ومن شأنها أنها لا تقع في الأمة المتدينة إلا شذوذا ، وقلما يحتاج إلى العدل في الحكم إذا راعى الناس أماناتهم وأدوها إلى أهلها .
المسألة الخامسة : ورد في الأمانة عدة آيات ذكرنا بعضها آنفا ، وورد فيها أحاديث كثيرة مشددة في وجوب رعايتها وأدائها وتشنيع الخيانة والوعيد عليها ، منها حديث : رواه الشيخان آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان [ ص: 144 ] والترمذي من حديث والنسائي ، وفي معناه حديث : أبي هريرة رواه ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم ، من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان رسته ( عبد الرحمن بن عمر أبي الحسن الزهري الأصفهاني ) في الإيمان وأبو الشيخ في التوبيخ من حديث أنس ، وهو مروي عن غيره عند غيرهما بألفاظ أخرى ، ومنها حديث : رواه لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له أحمد من حديث وابن حبان أنس ورمز له السيوطي في جامعه بالصحة ، ومنها حديث : رواه لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما في سننه . سعيد بن منصور
المسألة السادسة : في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة وبيان فائدتها : ذكر حكيم الإسلام ومضرة الخيانة السيد جمال الدين الأفغاني في رسالته ( الرد على الدهريين ) التي ألفها بالفارسية ، وترجمها بالعربية تلميذه الأستاذ الإمام : إن الدين قد أفاد الناس ثلاث عقائد وثلاث خصال أقاموا بها بناء مدنيتهم ، ومن هذه الخصال أو الصفات : الأمانة : وهاك ما قاله فيها فهو يغني عن غيره :
" من المعلوم الجلي أن بقاء النوع الإنساني قائم بالمعاملات والمعاوضات في منافع الأعمال ، وروح المعاملة والمعاوضة إنما هي الأمانة ، فإن فسدت الأمانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة وانبترت حبال المعاوضة ، فاختل نظام المعيشة ، وأفضى ذلك بنوع الإنسان إلى الفناء العاجل .
" ثم من البين أن الأمم في رفاهتها ، والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها محتاجة إلى الحكومة بأي أنواعها ، إما جمهورية ، أو ملكية مشروطة ، أو ملكية مقيدة ، والحكومة في أي صورها لا تقوم إلا برجال يلون ضروبا من الأعمال فمنهم حراس على حدود المملكة يحمونها من عدوان الأجانب عليها ، ويدافعون في الوالج في ثغورها ، وحفظة في داخل البلاد يأخذون على أيدي السفهاء ممن يهتك ستر الحياء ، ويميل إلى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما ، ومنهم حملة الشرع ، وعرفاء القانون يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات ، والحكم في المنازعات ، ومنهم أهل جباية الأموال يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج مع مراعاة قانونها في ذلك ، ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة ، وهي خزائن الرعايا في الحقيقة وإن كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها ، ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية مع مراعاة الاقتصاد والحكمة ، كإنشاء المدارس ، والمكاتب ، وتمهيد الطرق ، وبناء القناطر ، وإقامة الجسور ، وإعداد المستشفيات ، ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شئون الحكومة من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم حسبما عين لهم ، وهذه الطبقات من رجال الحكومة الوالين على أعمالها إنما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم [ ص: 145 ] الأمانة ، فإن خزيت أمانة أولئك الرجال وهم أركان الدولة سقط بناء السلطة وسلب الأمن ، وراحت الراحة من بين الرعايا كافة وضاعت حقوق المحكومين ، وفشا فيهم القتل والتناهب ووعرت طرق التجارة ، وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة ، وخوت خزائن الحكومة ، وعميت على الدولة سبل النجاح ; فإن حزبها أمر سدت عليها نوافذ النجاة ، ولا ريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة ، إما أن ينقرضوا بالفساد ، وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم يسومونهم خسفا ، ويستبدون فيهم عسفا فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال .
" ومن الظاهر أن استعلاء قوم على آخرين إنما يكون باتحاد آحاد العاملين والتئام بعضهم ببعض حتى يكون كل منهم لبنية قومه كالعضو للبدن ، ولن يكون هذا الاتحاد حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم ، وعمت بالحكم أفرادهم .
" فقد كشف الحق أن ، ومستقر أساس الحكومات ، وباسط ظلال الأمن والراحة ، ورافع أبنية العز والسلطان ، وروح العدالة وجسدها ، ولا يكون شيء من ذلك بدونها . الأمانة دعامة بقاء الإنسان
" وإليك الاختيار في فرض أمة عطلت نفوسها من حلية هذه الخلة الجليلة ، فلا تجد فيها إلا آفات جائحة ورزايا قاتلة ، وبلايا مهلكة ، وفقرا معوزا ، وذلا معجزا ، ثم لا تلبث بعد هذا كله أن تبتلعها بلاليع العدم ، وتلتهمها أمهات اللهيم اهـ .
المسألة السابعة : ورد الأمر بالعدل والتعظيم لشأنه في كثير من الآيات والأحاديث كقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( 16 : 90 ) ، وقوله : فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 49 : 9 ) ، والإقساط هو : العدل ، وقوله آمرا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبلغه للناس : وأمرت لأعدل بينكم ( 42 : 15 ) ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ( 4 : 135 ) ، الآية ، وفي معناها قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( 5 : 8 ) ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها ولا حاجة إلى إيراد الأحاديث هنا ولا الآيات المحرمة للظلم المتوعدة عليه .
المسألة الثامنة : المسلمون مأمورون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق ، وقد قال تعالى : وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ( 6 : 152 ) ، وهذا الأمر موجه إلى الحكام وغيرهم .