الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

منهج البقاعي في التفسير (1)

منهج البقاعي في التفسير (1)

 منهج البقاعي في التفسير (1)
البقاعي: هو الإمام برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي، ولد عام: (809 هـ) في البقاع في سوريا، ومات في دمشق عام: (885 هـ). تلقى العلم على يد والده منذ نعومة أظفاره فحفظ القرآن والفقه وعلومه، ولـمَّا رحل إلى دمشق قرأ فيها القراءات على الشمس الجزري، وقرأ على غيره النحو والفقه وغيرها من العلوم، وكان من أبرز شيوخه بعد الجزري الإمام ابن حجر العسقلاني، وابن قاضي شهبة وغيرهم.

للبقاعي العديد من المؤلفات بعضها مطبوع وأكثرها مخطوط، ومن مؤلفاته: سر الروح مختصر كتاب الروح لابن القيم، وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وقد طبع الكتاب بعنوان مصرع التصوف، وللبقاعي غيرها من المؤلفات أبرزها تفسيره الذي سماه: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور.

أراد البقاعي من تفسيره أن يظهر أن القرآن كتلة واحدة، أو ما يسمى اليوم بالوحدة الموضوعية، أو الوحدة العضوية، وذلك ببيان التناسب بين الآيات والسور، الآية بعضها مع بعض، والسورة كذلك، والآية مع آية أخرى، والسورة مع سورة أخرى، وهذا مسلك قليل من المفسرين من سلكه، قال السيوطي: "وعلم المناسبة علم شريف، قلَّ اعتناء المفسرين به لدقته"، ولأنه ليس فيه توقيف إنما يتوقف على استنباط المفسر واجتهاده، ولكن فوائده كثيرة جدًا لمن فتح الله عليه فيه، كما قال الرازي: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"، قال الزركشي في فوائد معرفة المناسبة: "وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذًا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء".

وقد سلك البقاعي لبيان مقصده الرئيس من تفسيره مسالك عدة نعرض في هذه المقالة لبيان أهمها كما يأتي:

أولًا: مسلك النص على مقصود السورة: كان من أولى المسالك التي سلكها البقاعي لبيان تناسق القرآن وترابطه من أوله إلى آخره؛ أن ينص بداية كل سورة على مقصدها الرئيس، وعمودها الفقري الذي ترتبط به كل موضوعات السورة فتظهر كتلة واحدة وموضوعًا واحدًا، فمن ذلك أن قال بداية تفسيره سورة البقرة: "مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مدارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة"، ثم تراه يعمد بعد ذلك في ذكر مقاصد السور إلى ربطها بمقصد السورة أو السور التي قبلها، فيقول في مقصد سورة النساء مثلًا: "مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران، والكتاب الذي حدت عليه البقرة؛ لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرًا مما أراده شأس بن قيس وأنظاره من الفرقة"، ثم نراه بعد ذلك يعمد إلى ربط الآيات بمقصد السورة، ثم يربط آخر السورة بأولها، وآخر القرآن بأوله، وذلك كما سيأتي بيانه.

ثانيًا: مسلك الربط بين تفسيره للبسملة ومقصد السورة: القارئ لتفسير البقاعي يجده لا يفسر البسملة بمعنى واحد شأن غيره من المفسرين، إنما يفسر كلماتها بما يتناسب وموضوع السورة، وهو يقول في ذلك: "وأفسر كل بسملة بما يوافق مقصود السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها"، وكان يذكر ذلك بعد ذكره مقصد السورة، وقليل ما ذكر تفسير البسملة قبل ذكر المقصد، ففي تفسيره بسملة سورة آل عمران التي قال إن مقصودها إثبات الوحدانية لله تعالى؛ فسرها بما يتناسب وهذا المقصد فقال: "{بسم الله} الواحد المتفرد بالإحاطة بالكمال {الرحمن} الذي وسعت رحمة ايجاد كل مخلوق وأوضح للمكلفين طريق النجاة {الرحيم} الذي اختار أهل التوحيد لمحل أنسه وموطن جمعه وقدسه"، وهكذا يفعل في تفسير كل بسملة.

ثالثًا: مسلك مناسبة السورة لما قبلها: يعمد البقاعي دائما لذلك المناسبة بين مقصد السورة التي يفسرها وما جاء في السورة التي قبلها؛ لتتصل حلقات القرآن بعضها ببعض، فمن ذلك أنه عند تفسيره لسورة الأعراف قال: "مقصودها إنذار من أعراض عما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية، من التوحيد والاجتماع على الخير والوفاء لـما قام على وجوبه من الدليل في الأنعام، وتحذيره بقوارع الدرارين"، ومن ذلك أيضًا ما قاله في مناسبة سورة الأنفال لسورة الأعراف التي قبلها قال: "ومناسبتها للأعراف أنه لما ذكر تعالى قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك -سورة الأعراف- ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه"، ويعني به ما كان قد وقع لرسول الله وأصحابه في معركة بدر، وكذا فعل في كل السور، ففي سورة القارعة قال: "لما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته فقال: {القارعة} أي الصيحة أو القيامة".

ولكن هذا المسلك من البقاعي ظهر فيه تكلف في بيان مناسبة أوائل بعض السور لأواخر السور التي قبلها، حتى إنه قال بما لا يقبل، ولم يقله أحد قبله، ومن ذلك أنه قال في بيان مناسبة آخر سورة العنكبوت لأول سورة الروم: "لما ختم سبحانه التي قبلها بأنه مع المحسنين قال: {ألم} مشيراً بألف القيام والعلو، ولام الوصلة، وميم التمام إلى أن الملك الأعلى القيوم، أرسل جبرائيل عليه الصلاة والسلام -الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام- إلى أشرف خلقه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، يوحي إليه وحيًا معلمًا بالشاهد والغائب، فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلًا على صحة رسالته"، وهذا مما يعدُّ من الربط الركيك المتكلف بين سور القرآن الذي قال فيه العز بن عبد السلام: "ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يُصان عنه حَسَنُ الحديث فضلا عن أحسنه".

رابعًا: مسلك مناسبة أول السورة لما جاء فيها: يعمد البقاعي لربط مواضيع السورة بمقصدها الرئيس، فنراه يقول في تفسير سورة آل عمران: "ومناسبة ابتدائها بالتوحيد لما في أثنائها أنه لما خلق عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى فقط، وهي أدنى أسباب النماء كان وجوده إشارة إلى أن الزيادة قد انتهت، وأن الخلق أخذ في النقصان، وهذا العالم أشرف على الزوال، فلم يأت بعده من قومه نبي بل كان خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكان هذا النبي الذي أتى بعده من غير قومه خاتم الأنبياء مطلقًا، وكان مبعوثًا مع نفس الساعة، وكان نزوله هو آخر الزمان علمًا على الساعة".

وقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] "ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل؛ لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان؛ لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف"، وهذا مسلكه في أغلب آيات القرآن.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة