ظهر أدب الحكائين في الثقافة العربية من قديم الزمان، وهو أدب معروف في أكثر ثقافات الأمم والشعوب، وهو نتاج لمحاولات البشر وسعيهم لترسيخ روح مجتمعاتهم، واحتفائهم بخرائط حضاراتهم، وهو فن يجمع بين التسلية، والحكمة، والتاريخ، في قالب فني حيّ يمس وجدان السامعين.
الحكاؤون لا يأتون على مجرد السرد القصصي، بل هم أدباء يجيدون استخدام اللغة، وفن القصص، يدغدغون المشاعر، ويمتلكون مهارات متعددة: من أداء صوتي، وحركات تعبيرية، إلى قدرة على الكتابة، وأخذ المستمعين في عوالم متخيلة، وهم دائمًا ما يُحسنون الانتقاء في ما يروونه، ويسردونه من قصص.
وغالبًا ما يستخدم الحكاؤون القصص لربطها بالقضايا الاجتماعية، أو لمواجهة الواقع، وتقديمه للقراء بطرق فنية، وشاعرية.
والحكاية أدب عربي أصيل، تقول الكاتبة زينب السعود: " القصّ الذي زخرت به ثقافتنا العربية قديمًا، وشكّل واحدة من طرائق الفهم، والوعي، والتواصل الفكري، والإنساني، خاصة بعد أن سار النهج القرآني على اعتماد الصورة المروية التي تحكي سيرة الأمم، والرسل؛ لترفع درجة التصور الشعوري الواعي لدى المتلقي، هو جزء ثابت، وأصيل في الواجهة الثقافية العربية، حتى إن الأسلوب الحكائي تغلغل أحيانًا إلى ديوان العرب (الشعر)، فجاءت كثير من النماذج الشعرية، محتضنة للحكايات مؤرّخة لها كالشعر الذي قيل على لسان الجليلة بنت مُرّة تتفجع فيه على مقتل زوجها كُليب.
ولا يستطيع مدعٍ أن يسلب الثقافة العربية هذا المنحى الواعي في أسلوب التعبير، والارتقاء بالنفس، فالقصة القرآنية التي حملت عناصر القص والحكاية بشكل جلي جعلت أمر إنكار بروز هذا الفن الأدبي مبكرًا لدى العرب دعوى منكرة وبائنة بينونة كبرى".
والمتعارف عليه أن من أهم صفة الحكاء المبالغة، والإطناب من غير أن يكون كذاباً، فالحكاية في جوهرها أمانة، وأسّها الصدق، وهي عادة تحمل رسالة، وربطاً بين القلوب والأذهان، وهذا لا يعني أن الحكاء لا يضيف شيئًا من خياله، أو يزيده أحيانًا، ولكن من غير أن يتجاوز الحقيقة، أو يختلق قصصًا تخالف الواقع.
وما من شك أن الاعداد، والجهد الذي يبذله الحكاء، سواء في التحضير، أو الأداء، يدفعه أحيانًا إلى التزيد، أو المبالغة في التعددية لإثارة التنوع، واختراع أحداث تكون ضرورية من أجل الحبكة القصصية، فمثلاً، عندما يصف ما تناوله، أو ما رأى من مشاهد طبيعية، قد يُبالغ ليُعطي للحكاية حيوية، وطابعًا دراميًا، حتى يأنس لها السامع، وينجذب لها المتلقي، وهذا يكون باتفاق ضمني بين الحكاء، والسامعين، فهم يدركون أن هناك خيال ومبالغة، ولكن في إطار معقول، حتى تكتمل القصة وتنضج الحكاية، ويحصل التفاعل بين الحكاء والمتلقين.
الحكاية ليست مجرد أيقونة ترفيه، بل هي مرآة لقيم الناس، وحياتهم، وتمدد الحضارات وانتشارها، وأحوال المجتمعات، ومكتسباتها.
فالحكاء يصف تاريخ الناس، وأحداث الزمان، من عادات، وتقاليد، و مغامرات، وأحداث سياسية، وأحياناً يسهب الحكاء بشكل ما في وصف وجبات الطعام، والألوان، والأحاسيس، ليُدخل المتلقي في الحكاية، ويثير اهتمامه.
ولنا أن نتسائل هل السينما الحديثة والتي أخذت دور الحكاء، قامت بدور الحكاء بأمانة، أو أنها انحرفت بدور الحكاء؟ خاصة وأننا نشاهد أنها لم تلتزم الصدق، والأخلاق، ولم تحافظ على تقاليد المجتمعات، وغيبت دور الحكمة التي كانت في الحكاء، والذي كان أحرص ما يكون في سرده أن يكلم الناس عن الفضيلة ، والشهامة، وتوابع ذلك من أخلاق حميدة، وعلى العكس من ذلك قامت السينما بتمجيد العري، والسفور، وجلبت ثقافات مجتمعات أخرى تختلف عن المجتمع العربي في كل شيء، مما جعل السينما في غالب أحوالها وبالاً على قيم مجتمعاتنا، وعدواً كامل العداوة للفضيلة والحشمة، وقيم المجتمعات.
ولقد كان الحكاء في الأدب القديم مثالاً يُعلي قيمة الصدق، ويقدرأهمية الأمانة في نقل القصص، والأحداث.
كما أن الحكاء كان كثير الأسفار والتنقل، ويحكي عن تجربة، وعلم بطرق عيش الناس، وكان من أجل ذلك يخالط الناس، ويكون قريباً من الأحداث، ويسامر أهل الصنائع، ويطلع على العادات، والتقليد من مصادرها الأصلية، يحدث الناس حديثاً ينضح بنتائج عملية، ويشارك جمهورَه تجارب وقصصاً، يحنّ لها الناس ويستملحونها لما فيها من الحكمة والخبرة؛ حتى لو كانت مشحونة بمبالغات، ولكن فيها ما يثري المجالس من التنوع، والبهجة، ومعان جديدة تظلل حياة المتلقين، مع المحافظة على الأدب والأخلاق الرفيعة.
على عكس الانتاج السينمائي الذي يقلد أدب حضارات الآخرين، وينشر بين العرب أخلاقاً غريبة على الأمة، والمجتمع، بل هي في أكثر الأحيان مصادمة للدين، والعرف، والأخلاق.
خاتمة القول: الحكاء كان رمزاً للفن الراقي، والأخلاق الحميدة، وأما بديله اليوم، من انتاج فني، فهذا سقوطه لا يخفى، وجنايته على ذوق العامة، والأخلاق الرفيعة لا ينطلي على كل من ألقى السمع وهو شهيد.
المقالات

