الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فول وجهك شطر المسجد الحرام

فول وجهك شطر المسجد الحرام

فول وجهك شطر  المسجد الحرام

الخطبة الأولى

الحمد لله، خلق خلقه أطواراً، وصرَّفهم كيف شاء سبحانه عزةً واقتداراً، أنزل عليهم كتبه، وأرسل إليهم رسله إعذاراً وإنذاراً، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، رضي الله عنهم وأرضاهم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أعقب ليل نهاراً.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فالزموها، وبادروا بالأعمال الصالحة والتزموها، فالزمان يطوي مديد الأعمار، وكل مَنْ عليها راحل عن هذه الدار، التسويف لا يورث إلا حسرة وندماً، وطول العمر لا يُعْقِب إلا هرماً وسقماً، فواعجباً لنفوس طال على الدنيا إقبالها، وغلب عن الآخرة إعراضها وإدبارها!

أيها المسلمون: لقد ولى الحجاج وجوههم شطر ديارهم، تقبل الله منهم، وجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وبلغهم أهلهم وديارهم سالمين غانمين، وأعاذهم من سوء المنقلب في المال والأهل؛ ولكن حين ولوا وجوههم شطر بلادهم هل انقطع ارتباطهم بالبيت الحرام؟! إنهم لن يزالوا يولون وجوههم شطر المسجد الحرام: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة:144).

معاشر المؤمنين: جعل الله البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، فارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصوراً على أشهر معلومات، ولا محصوراً في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم، ووشائج لا تنقطع.

المسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله -كما يختم نشاطه- بالتوجه إلى البيت الحرام، حين يقف بين يدي ربه قائماً، يؤدي الصلوات الخمس بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم وأينما كانت ديارهم، ناهيكم عن النوافل والأدعية والأذكار التي يُشرع فيها استقبال البيت الحرام.

فهذه صورٌ وهيئات لا حصر لها، يتفاوت فيها المسلمون، ويتنافس فيها الصالحون.

بيت الله المحرم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطاً بموسم، ولا محصوراً في فريضة، بل حتى حين يُوَسَّد في قبره دفيناً، فإنه يُوجَّه إلى البيت الحرام، فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً.

تأملوا هذه الآيات الثلاث: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة:144)، وقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَم * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة:149-150).

ما هو السر في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟!

أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات، وأُمِر المسلمون مرتين، وتكرر قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (البقرة:149) ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهة ثلاث مرات، ما ذلك كله إلا لتأكيد عِظَم هذا التوجه، والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة، والتحذير من تطرق التساهل في ذلك، تقريراً للحق في نفوس المسلمين، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة:147).

أيها المسلمون: إن أبعاداً كثيرة لهذا التوجه قد غابت عن حياة كثير من المسلمين اليوم، فأصبح الأمر عندهم أقرب للعادة منه للعبادة.

إن تولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدائم لمعاني الولاء والموالاة، ومعاني الصلاة والحج وأسرارهما، وكل عبادة مرتبطة باستقبال هذا البيت المعظم.

يولي المسلم وجهه شطر المسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه، ويستصحبه في حاضره؛ ليتذكر تاريخ البيت وبناء البيت على التوحيد الخالص والملة الإبراهيمية الحنيفية.

يولي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدم الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها، يولي وجهه شطر الكعبة المشرفة ليتذكر ألوان الابتلاءات التي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم مطمئناً ومثبتاً ومؤكداً: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.

إنه النصر الذي لا بد أن يتم بإذن الله من خلال صحيح الإيمان وعَزَمات البشر، والخضوع للسنن الإلهية في النصر والهزيمة.

إن الجالس قِبل بيت الله يدرك حكمة الدعوة وتربية الناس في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.

وفي مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثٌ عَهْدُهُم بكُفْرٍ، لنقضت البيت، ثم بنيته على قواعد إبراهيم) متفق عليه.

كل هذه الاستحضارات والتأملات من أجل ألا يُكذَّب الله ورسوله، ومن أجل أن تُسلك مسالك الحكمة في الدعوة والفقه والتعليم والتربية.

معاشر المؤمنين: وحكمة أخرى تتجلى حين التأمل في التوجه نحو بيت الله المحرم واستقباله؛ ذلكم أن المقصود بالعبادات كلها تمام الخضوع لله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} (قريش:3).

وبمقدار استحضار المعبود وعظمته وجلاله يقرب العبد من مرتبة الإحسان، فالإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فكان التوجه إلى المسجد الحرام وإلى القبلة مساعداً على هذا الاستحضار العظيم.

والعبادات والشعائر لا تؤدَّى بالنية المجردة ولا بالتوجه القلبي والروحي وحدهـما، ولكن هذه العبادات لها صفاتها وهيئاتـها: من القيام والقعود، والركوع والسجود، والأقوال والأفعال، والاتجاه نحو القبلة، وكذلك الإحرام والطواف، والحركة والسعي، والدعاء والتلبية، والنحر والرمي، والحلق والتقصير، وهكذا في كل عبادة حركة، وفي كل حركة عبادة، عبادات تجمع بين القلب والجوارح الماديات والمعنويات ليتأكد الارتباط بين ظاهر النفس وباطنها.

إن ثمة رغبة فطرية بشرية للربط بين الأشكال الظاهرة والقوى الباطنة، فانحرفت فئات من البشر؛ فعبدوا الأحجار، والأشجار، والحيوان، والشمس، والقمر، والأفلاك، وجاء الإسلام ليلبي دواعي الفطرة، فشرع العبادات من الأقوال والأفعال والحركات مع تجريد كل ذلك لله وحده، فيتوجه العبد بجسده إلى القبلة والكعبة، ويولي وجهه شطر المسجد الحرام؛ ولكنه في ذات الوقت يتوجه إلى الله بكليته، بقلبه وجوارحه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:115).

عباد الله: إن المسلمين حين يتجهون إلى القبلة فإنما يتوجهون نحو التميز والاختصاص، فالقبلة رمز للوحدة والتوحيد، ورمز لتميز شخصية المسلم.

وَحَّدَ اللهُ هذه الأمةَ في ربها، ونبيها، ودينها، وقبلتها، وحدها على اختلاف أوطانها وأجناسها وألوانها ولغتها، وحدة قوامها العقيدة والقبلة؛ عقيدة القلب وقبلة العبادة، جاء في الحديث: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، فذلك المسلم) متفق عليه.

أمة وسط في الدين والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، ولكنها الفطرة في روح متلبسة بجسد، وجسد تتلبس به روح، وتطلق كل نشاط في تهذيب بلا إفراط ولا تفريط، قصد وتناسق واعتدال، ومن أجل هذا جاء في هذا السياق كله قوله الله سبحانه: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة:147)، ما جاءنا من ربنا هو الحق، والدين الذي نحن عليه هو الحق، فلا نتبع غير أهل ملتنا في شأننا، ولا نقبل من أعدائنا القول في تاريخنا وتراثنا، ولا نسمع إليهم في دراساتهم عن قرآننا وحديث نبينا، إنه الجِد الصارم والحق الجلي الذي تضمحل أمامه الأقاويل والأباطيل.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

أقول ما سمعتم...وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم.

الخطبة الثانية

نحمده سبحانه ونشكره، أتم علينا النعمة ورضي لنا الدين وأكمل، ونتوب إليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليماً كثيراً.

عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

معاشر المؤمنين: يُولي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام؛ لتبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم، التفاف حول هذا البيت، من خلال -عمود الإسلام- الصلاة المفروضة؛ والتي تبدأ بأهل الحي، وتنتهي بالتجمع الأعظم يوم الحج الأكبر.

صلاة الجماعة قاعدة وأساس، وصلاة الفرد فذ واستثناء، جاء في الحديث بإسناد حسن: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله) رواه أبو داود.

وصلاة الجمعة صورة ليس لها نظير في حشد يجتمع على الصلاة والموعظة والتذكير والنصيحة ومعالجة القضايا؛ ليتأكد استمرار الجماعة على الجادة الراشدة.

وشعائر العيدين تجمعٌ مشهود، يحضره الرجال والنساء، جماعةً وبهجة في ظل الالتزام بخلق الإسلام.

ويأتي التجمع الأخطر والاحتفاء الأكبر، حين يؤذَّن في الناس بالحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27).

تجمعٌ عظيم، لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان، ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها وحنيفيتها وقبلة المسلمين في قداستها تؤكد هذا الرباط الوثيق من الأخوة والوُد، لينطقوا جمعياً بلسان عربي مبين: (لبيك اللهم لبيك).

إنهم جميعاً في موقف العبودية لله وحده: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92).

عباد الله: اتقوا الله، واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم، {وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (البقرة:231).

ألا وصلُّوا على نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة