الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وفي ثالث يوم من ربيع الأول ، بويع السفاح بالخلافة ، بالكوفة ، في دار مولاه الوليد بن سعد وسار الخليفة مروان في مائة ألف فارس ، حتى نزل الزابين دون الموصل ، يقصد العراق . فجهز السفاح له عمه عبد الله بن علي ، فكانت الوقعة على كشاف ، في جمادى الآخرة ، فانكسر مروان وتقهقر ، وعدى الفرات ، وقطع وراءه الجسر ، وقصد الشام ليتقوى ، ويلتقي ثانيا .

                                                                                      فجد في طلبه عبد الله بن علي حتى طرده عن دمشق ، ونازلها ، وأخذها بعد أيام ، وبذل السيف ، وقتل بها في ثلاث ساعات نحوا من خمسين ألفا ، غالبهم من جند بني أمية .

                                                                                      وانقضت أيامهم ، وهرب مروان إلى مصر في عسكر قليل ، فجدوا في طلبه ، إلى أن بيتوه بقرية بوصير ، فقاتل حتى قتل ، وطيف برأسه في البلدان ، وهرب ابناه إلى بلاد النوبة .

                                                                                      [ ص: 58 ] قال محمد بن جرير في " تاريخه " : كان بدو أمر بني العباس ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قيل ، أعلم العباس أن الخلافة تئول إلى ولده ، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك .

                                                                                      قلت : لم يصح هذا الخبر ، ولكن آل العباس ، كان الناس يحبونهم ، ويحبون آل علي ، ويودون أن الأمر يئول إليهم ، حبا لآل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبغضا في آل مروان بن الحكم فبقوا يعملون على ذلك زمانا حتى تهيأت لهم الأسباب ، وأقبلت دولتهم وظهرت من خراسان .

                                                                                      وعن رشدين بن كريب : أن أبا هاشم بن محمد ابن الحنفية ، خرج إلى الشام ، فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، والد السفاح ، فقال : يا ابن عم! إن عندي علما أريد أن ألقيه إليك ، فلا تطلعن عليه أحدا : إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس ، هو فيكم; قال : قد علمته ، فلا يسمعنه منك أحد .

                                                                                      قلت : فرحنا بمصير الأمر إليهم ، ولكن والله ساءنا ما جرى لما جرى من سيول الدماء ، والسبي ، والنهب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء ، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم ، وأنى لها العدل ؟ بل أتت دولة أعجمية ، خراسانية ، جبارة ، ما أشبه الليلة بالبارحة .

                                                                                      روى أبو الحسن المدائني عن جماعة : أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله ، قال : لنا ثلاثة أوقات : موت يزيد بن معاوية ، ورأس المائة ، وفتق بإفريقيا . فعند ذلك يدعو لنا دعاة ، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب .

                                                                                      فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ، ونقضت البربر ، بعث محمد الإمام رجلا إلى خراسان وأمره أن يدعو إلى الرضا من آل محمد ، ولا يسمي أحدا . ثم إنه وجه أبا مسلم ، وكتب إلى النقباء ، فقبلوا كتبه ، ثم وقع في يد مروان بن [ ص: 59 ] محمد كتاب لإبراهيم بن محمد إلى أبي مسلم ، جواب كتاب ، يأمر أبا مسلم بقتل كل من تكلم بالعربية بخراسان .

                                                                                      فقبض مروان على إبراهيم ، وقد كان مروان وصف له صفة السفاح التي كان يجدها في الكتب ، فلما جيء بإبراهيم ، قال : ليست هذه الصفة ، ورد أعوانه في طلب المنعوت له ، وإذا بالسفاح وإخوته وأعمامه قد هربوا إلى العراق ، واختفوا بها عند شيعتهم .

                                                                                      فيقال : إن إبراهيم كان نعى إليهم نفسه ، وأمرهم بالهرب ، فهربوا من الحميمة ، فلما قدموا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال وكتم أمرهم .

                                                                                      فبلغ الخبر أبا الجهم ، فاجتمع بكبار الشيعة ، فدخلوا على آل العباس ، فقالوا : أيكم عبد الله بن محمد ابن الحارثية ، قالوا : هذا . فسلموا عليه بالخلافة ، ثم خرج أبو الجهم ، وموسى بن كعب ، والأعيان ، فهيئوا أمرهم ، وخرج السفاح على برذون ، فصلى بالناس الجمعة . وذلك مستوفى في ترجمة السفاح ، وفي " تاريخي الكبير " وفي ترجمة عم السفاح عبد الله .

                                                                                      وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة سار أبو جعفر المنصور إلى خراسان إلى أبي مسلم ، ليأخذ رأيه في قتل أبي سلمة ، حفص بن سليمان الخلال ، وزيرهم . وذلك أنه لما نزل به السفاح وأقاربه ، حدثته نفسه بأن يبايع علويا ، ويدع هؤلاء وشرع يعمي أمرهم ، على قواد شيعتهم ، فبادر كبارهم ، وبايعوا لسفاح وأخرجوه ، فخطب الناس فما وسعه -أعني أبا سلمة - إلا المبايعة ، فاتهموه .

                                                                                      فعن أبي جعفر قال : انتدبني أخي السفاح للذهاب إلى أبي مسلم ، فسرت على وجل ، فقدمت الري ثم شرفت عنها فرسخين ، فلما صار بيني وبين مرو فرسخين ، تلقاني أبو مسلم في الجنود . فلما دنا مني ترجل ماشيا ، فقبل [ ص: 60 ] يدي ، ثم نزلت ، فمكثت ثلاثة أيام لا يسألني عن شيء ثم سألني فأخبرته ، فقال : فعلها أبو سلمة ؟ أنا أكفيكموه . فدعا مرار بن أنس الضبي ، فقال : انطلق إلى الكوفة ، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته . قال : فقتله بعد العشاء . وكان يقال له : وزير آل محمد .

                                                                                      ولما رأى أبو جعفر عظمة أبي مسلم ، وسفكه للدماء ، رجع من عنده وقال للسفاح : لست بخليفة إن أبقيت أبا مسلم . قال : وكيف ؟ قال : ما يصنع إلا ما يريد . قال : فاسكت واكتمها .

                                                                                      وأما ابن هبيرة ، فدام ابن قحطبة يحاصره بواسط أحد عشر شهرا ، فلما تيقنوا هلاك مروان ، سلموها بالأمان ، ثم قتلوا ابن هبيرة ، وغدروا به ، وبعدة من أمرائه .

                                                                                      وفي عام ثلاثة وثلاثين خرج على أبي مسلم شريك المهري ببخارى ، ونقم على أبي مسلم كثرة قتله ، وقال : ما على هذا اتبعنا آل محمد ، فاتبعه ثلاثون ألفا . فسار عسكر أبي مسلم ، فالتقوا ، فقتل شريك .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية