الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أبو المظفر السمعاني

                                                                                      الإمام العلامة ، مفتي خراسان ، شيخ الشافعية أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي ، السمعاني ، المروزي ، الحنفي كان ، ثم الشافعي .

                                                                                      ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة .

                                                                                      وسمع أبا غانم أحمد بن علي الكراعي ، وأبا بكر بن عبد الصمد [ ص: 115 ] الترابي ، وطائفة بمرو ، وعبد الصمد بن المأمون ، وطبقته ببغداد ، وأبا صالح المؤذن ، ونحوه بنيسابور ، وأبا علي الشافعي ، وأبا القاسم الزنجاني بمكة ، وأكبر شيخ له الكراعي ، وبرع في مذهب أبي حنيفة على والده العلامة أبي منصور السمعاني ، وبرز على الأقران .

                                                                                      روى عنه : أولاده ، وعمر بن محمد السرخسي ، وأبو نصر محمد بن محمد الفاشاني ومحمد بن أبي بكر السنجي ، وإسماعيل بن محمد التيمي ، وأبو نصر الغازي ، وأبو سعد بن البغدادي ، وخلق كثير .

                                                                                      حج على البرية أيام انقطع الركب ، فأخذ هو وجماعة ، فصبر إلى أن خلصه الله من الأعراب ، وحج وصحب الزنجاني . كان يقول : أسرونا ، فكنت أرعى جمالهم ، فاتفق أن أميرهم أراد أن يزوج بنته ، فقالوا : نحتاج أن نرحل إلى الحضر لأجل من يعقد لنا . فقال رجل منا : هذا الذي يرعى جمالكم فقيه خراسان ، فسألوني عن أشياء ، فأجبتهم ، وكلمتهم بالعربية ، فخجلوا واعتذروا ، فعقدت لهم العقد ، وقلت الخطبة ، ففرحوا ، وسألوني أن أقبل منهم شيئا ، فامتنعت ، فحملوني إلى مكة وسط العام .

                                                                                      قال عبد الغافر في " تاريخه " : هو وحيد عصره في وقته فضلا وطريقة ، وزهدا وورعا ، من بيت العلم والزهد ، تفقه بأبيه ، وصار من [ ص: 116 ] فحول أهل النظر ، وأخذ يطالع كتب الحديث ، وحج ورجع ، وترك طريقته التي ناظر عليها ثلاثين سنة ، وتحول شافعيا ، وأظهر ذلك في سنة ثمان وستين ، فاضطرب أهل مرو ، وتشوش العوام ، حتى وردت الكتب من الأمير ببلخ ، في شأنه والتشديد عليه ، فخرج من مرو ، ورافقه ذو المجدين أبو القاسم الموسوي ، وطائفة من الأصحاب ، وفي خدمته عدة من الفقهاء ، فصار إلى طوس ، وقصد نيسابور ، فاستقبله الأصحاب استقبالا عظيما أيام نظام الملك ، وعميد الحضرة أبي سعد ، فأكرموه ، وأنزل في عز وحشمة ، وعقد له مجلس التذكير في مدرسة الشافعية ، وكان بحرا في الوعظ ، حافظا ، فظهر له القبول ، واستحكم أمره في مذهب الشافعي ، ثم عاد إلى مرو ، ودرس بها في مدرسة الشافعية ، وقدمه النظام على أقرانه ، وظهر له الأصحاب ، وخرج إلى أصبهان ، وهو في ارتقاء . صنف كتاب " الاصطلام " وكتاب " البرهان " وله " الأمالي " في الحديث تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة ، وكان شوكا في أعين المخالفين ، وحجة لأهل السنة .

                                                                                      وقال أبو سعد : صنف جدي التفسير ، وفي الفقه والأصول [ ص: 117 ] والحديث ، وتفسيره ثلاث مجلدات وله " الاصطلام " الذي شاع في الأقطار ، وكتاب " القواطع " في أصول الفقه ، وله كتاب " الانتصار بالأثر " في الرد على المخالفين ، وكتاب " المنهاج لأهل السنة " ، وكتاب " القدر " ، وأملى تسعين مجلسا . سمعت من يحكي عن رفيق جدي في الحج حسين بن حسن ، قال : اكترينا حمارا ، ركبه الإمام أبو المظفر إلى خرق ، وبينها وبين مرو ثلاثة فراسخ ، فنزلنا ، وقلت : ما معنا إلا إبريق خزف ، فلو اشترينا آخر ؟ فأخرج خمسة دراهم ، وقال : يا حسين ، ليس معي إلا هذه ، خذ واشتر ، ولا تطلب بعدها مني شيئا . قال : فخرجنا على التجريد ، وفتح الله لنا .

                                                                                      وسمعت شهردار بن شيرويه ، سمعت منصور بن أحمد ، وسأله أبي ، فقال : سمعت أبا المظفر السمعاني يقول : كنت حنفيا ، فبدا لي ، وحججت ، فلما بلغت سميراء رأيت رب العزة في المنام ، فقال لي : عد إلينا يا أبا المظفر ، فانتبهت ، وعلمت أنه يريد مذهب الشافعي ، فرجعت إليه .

                                                                                      [ ص: 118 ] وقال الحسين بن أحمد الحاجي : خرجت مع أبي المظفر إلى الحج ، فكلما دخلنا بلدة ، نزل على الصوفية ، وطلب الحديث ، ولم يزل يقول في دعائه : اللهم بين لي الحق ، فلما دخلنا مكة ، نزل على أحمد بن علي بن أسد ، وصحب سعدا الزنجاني حتى صار محدثا .

                                                                                      وقرأت بخط أبي جعفر الهمذاني الحافظ : سمعت أبا المظفر السمعاني يقول : كنت في الطواف ، فوصلت إلى الملتزم ، وإذا برجل قد أخذ بردائي ، فإذا الإمام سعد ، فتبسمت ، فقال : أما ترى أين أنت ؟ ! هذا مقام الأنبياء والأولياء ، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم كما سقته إلى أعز مكان ، فأعطه أشرف عز في كل مكان وزمان ، ثم ضحك إلي ، وقال : لا تخالفني في سرك ، وارفع يديك معي إلى ربك ، ولا تقولن البتة شيئا ، واجمع لي همتك حتى أدعو لك ، وأمن أنت ، ولا يخالفني عهدك القديم ، فبكيت ، ورفعت معه يدي ، وحرك شفتيه ، وأمنت ، ثم قال : مر في حفظ الله ، فقد أجيب فيك صالح دعاء الأمة ، فمضيت وما شيء أبغض إلي من مذهب المخالفين .

                                                                                      وبخط أبي جعفر : سمعت إمام الحرمين يقول : لو كان الفقه ثوبا طاويا ، لكان أبو المظفر السمعاني طرازه .

                                                                                      وقال الإمام أبو علي بن الصفار : إذا ناظرت أبا المظفر ، فكأني أناظر رجلا من أئمة التابعين مما أرى عليه من آثار الصالحين .

                                                                                      [ ص: 119 ] قال أبو سعد : حدثنا أبو الوفاء عبد الله بن محمد ، حدثنا أبوك أبو بكر يقول : سمعت أبي يقول : ما حفظت شيئا فنسيته .

                                                                                      وقال أبو سعد : سمعت أبا الأسعد بن القشيري يقول : سئل جدك بحضور والدي عن أحاديث الصفات ، فقال : عليكم بدين العجائز .

                                                                                      إلى أن قال : ولد جدي سنة 426 وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة عاش ثلاثا وستين سنة رحمه الله .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية