الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      أبو الوليد الباجي

                                                                                      الإمام العلامة ، الحافظ ، ذو الفنون ، القاضي أبو الوليد ، [ ص: 536 ] سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي ، الأندلسي ، القرطبي ، الباجي ، الذهبي ، صاحب التصانيف .

                                                                                      أصله من مدينة بطليوس فتحول جده إلى باجة - بليدة بقرب إشبيلية - فنسب إليها ، وما هو من باجة المدينة التي بإفريقية التي ينسب إليها الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، وابنه الحافظ الأوحد أبو عمر أحمد بن عبد الله بن الباجي ، وهما من علماء الأندلس أيضا .

                                                                                      ولد أبو الوليد في سنة ثلاث وأربعمائة .

                                                                                      وأخذ عن : يونس بن مغيث ، ومكي بن أبي طالب ، ومحمد بن إسماعيل ، وأبي بكر محمد بن الحسن بن عبد الوارث .

                                                                                      وارتحل سنة ست وعشرين ، فحج ، ولو مدها إلى العراق [ ص: 537 ] وأصبهان ; لأدرك إسنادا عاليا ، ولكنه جاور ثلاثة أعوام ، ملازما للحافظ أبي ذر ، فكان يسافر معه إلى السراة ، ويخدمه ، فأكثر عنه وأخذ علم الحديث والفقه والكلام .

                                                                                      ثم ارتحل إلى دمشق ، فسمع من : أبي القاسم عبد الرحمن بن الطبيز ، والحسن بن السمسار ، والحسن بن محمد بن جميع ، ومحمد بن عوف المزني .

                                                                                      وارتحل إلى بغداد ، فسمع عمر بن إبراهيم الزهري ، وأبا طالب محمد بن محمد بن غيلان ، وأبا القاسم الأزهري ، وعبد العزيز بن علي الأزجي ، ومحمد بن علي الصوري الحافظ ، وصحبه مدة ، ومحمد بن عبد الواحد بن رزمة ، والحسن بن محمد الخلال ، وخلقا سواهم .

                                                                                      وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطبري ، والقاضي أبي عبد الله الصيمري ، وأبي الفضل بن عمروس المالكي .

                                                                                      وذهب إلى الموصل ، فأقام بها سنة على القاضي أبي جعفر السمناني المتكلم ، صاحب ابن الباقلاني ، فبرز في الحديث والفقه والكلام والأصول والأدب .

                                                                                      فرجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم غزير ، حصله مع الفقر والتقنع باليسير .

                                                                                      حدث عنه : أبو عمر بن عبد البر ، وأبو محمد بن حزم ، وأبو بكر [ ص: 538 ] الخطيب ، وعلي بن عبد الله الصقلي ، وأبو عبد الله الحميدي ، وأحمد بن علي بن غزلون ، وأبو علي بن سكرة الصدفي ، وأبو بكر الفهري الطرطوشي ، وابنه الزاهد أبو القاسم بن سليمان ، وأبو علي بن سهل السبتي ، وأبو بحر سفيان بن العاص ، ومحمد بن أبي الخير القاضي وخلق سواهم .

                                                                                      وتفقه به أئمة ، واشتهر اسمه ، وصنف التصانيف النفيسة .

                                                                                      قال القاضي عياض : أجر أبو الوليد نفسه ببغداد لحراسة درب ، وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب للغزل ، ويعقد الوثائق قال لي أصحابه : كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة ، إلى أن فشا علمه ، وهيتت الدنيا به ، وعظم جاهه ، وأجزلت صلاته ، حتى توفي عن مال وافر ، وكان يستعمله الأعيان في ترسلهم ، ويقبل جوائزهم ، ولي القضاء بمواضع من الأندلس ، وصنف كتاب " المنتقى في الفقه " وكتاب " المعاني في شرح الموطأ " ، فجاء في عشرين مجلدا ، عديم النظير .

                                                                                      قال : وقد صنف كتابا كبيرا جامعا ، بلغ فيه الغاية ، سماه " الاستيفاء " ، وله كتاب " الإيماء في الفقه " خمس مجلدات ، وكتاب " السراج في الخلاف " لم يتم ، و " مختصر المختصر في مسائل المدونة " ، وله كتاب في اختلاف الموطأت ، وكتاب في الجرح [ ص: 539 ] والتعديل ، وكتاب " التسديد إلى معرفة التوحيد " ، وكتاب " الإشارة في أصول الفقه " ، وكتاب " إحكام الفصول في أحكام الأصول " ، وكتاب " الحدود " ، وكتاب " شرح المنهاج " ، وكتاب " سنن الصالحين وسنن العابدين " ، وكتاب " سبل المهتدين " ، وكتاب " فرق الفقهاء " ، وكتاب " التفسير " لم يتمه ، وكتاب " سنن المنهاج وترتيب الحجاج " .

                                                                                      قال الأمير أبو نصر : أما الباجي ذو الوزارتين ففقيه متكلم ، أديب شاعر ، سمع بالعراق ، ودرس الكلام ، وصنف . . . إلى أن قال : وكان جليلا رفيع القدر والخطر ، قبره بالمرية .

                                                                                      وقال القاضي أبو علي الصدفي : ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي ، وما رأيت أحدا على سمته وهيئته وتوقير مجلسه . ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم أحمد ، فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشامي ، فقلت له : أدام الله عزك ، هذا ابن شيخ الأندلس . فقال : لعله ابن الباجي ؟ قلت : نعم . فأقبل عليه .

                                                                                      قال القاضي عياض : كثرت القالة في أبي الوليد لمداخلته للرؤساء ، وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره كأوريولة ، فكان يبعث إليها خلفاءه ، وربما أتاها المرة ونحوها ، وكان في أول أمره مقلا حتى احتاج في سفره إلى القصد بشعره ، وإيجار نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته ، [ ص: 540 ] مستفيضا لحراسة درب ، وقد جمع ولده شعره ، وكان ابتدأ بكتاب " الاستيفاء " في الفقه ، لم يضع منه سوى كتاب الطهارة في مجلدات . قال لي : ولما قدم من الرحلة إلى الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة ، إلا أنه كان خارجا عن المذهب ، ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه ، فقصرت ألسنة الفقهاء عن مجادلته وكلامه ، واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل ، وحل بجزيرة ميورقة ، فرأس فيها ، واتبعه أهلها ، فلما قدم أبو الوليد ; كلموه في ذلك ، فدخل إلى ابن حزم ، وناظره ، وشهر باطله . وله معه مجالس كثيرة . قال : ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في " صحيح " البخاري . قال بظاهر لفظه ، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ ، وكفره بإجازته الكتب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النبي الأمي ، وأنه تكذيب للقرآن ، فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام ، حتى أطلقوا عليه الفتنة ، وقبحوا عند العامة ما أتى به ، وتكلم به خطباؤهم في الجمع ، وقال شاعرهم :

                                                                                      برئت ممن شرى دنيا بآخرة وقال : إن رسول الله قد كتبا



                                                                                      فصنف القاضي أبو الوليد رسالة بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة ، فرجع بها جماعة .

                                                                                      قلت : يجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب اسمه ليس إلا ، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ، وما من كتب اسمه من الأمراء والولاة إدمانا للعلامة يعد كاتبا ، فالحكم للغالب لا لما ندر ، وقد قال عليه السلام : إنا أمة [ ص: 541 ] أمية لا نكتب ولا نحسب أي لأن أكثرهم كذلك ، وقد كان فيهم الكتبة قليلا . وقال - تعالى - : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم فقوله - عليه السلام - : لا نحسب حق ، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب ، وقسم الفيء ، وقسمة المواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القبط ولا الجبر والمقابلة ، بأبي هو ونفسي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان سيد الأذكياء ، ويبعد في العادة أن الذكي يملي الوحي وكتب الملوك وغير ذلك على كتابه ، ويرى اسمه الشريف في خاتمه ، ولا يعرف هيئة ذلك مع الطول ، ولا يخرج بذلك عن أميته ، وبعض العلماء عد ما كتبه يوم الحديبية من معجزاته ، لكونه لا يعرف الكتابة وكتب ، فإن قيل : لا يجوز عليه أن يكتب ، فلو كتب ; لارتاب مبطل ، ولقال : كان يحسن الخط ، ونظر في كتب الأولين . قلنا : ما كتب خطا كثيرا حتى يرتاب به المبطلون ، بل قد يقال : لو قال مع طول مدة كتابة الكتاب بين يديه : لا أعرف أن أكتب اسمي الذي في خاتمي ، لارتاب المبطلون أيضا ، ولقالوا : هو غاية في الذكاء ، فكيف لا يعرف ذلك ؟ بل عرفه ، وقال : لا أعرف . فكان يكون ارتيابهم أكثر وأبلغ في إنكاره - والله أعلم .

                                                                                      وأما الحافظ أبو القاسم بن عساكر ، فذكر أن أبا الوليد قال : كان أبي من باجة القيروان ، تاجرا يختلف إلى الأندلس . [ ص: 542 ]

                                                                                      قلت : فعلى هذا هو وأبو عمر بن الباجي وأله كلهم من باجة القيروان - فالله أعلم .

                                                                                      ومن نظم أبي الوليد :

                                                                                      إذا كنت أعلم علما يقينا     بأن جميع حياتي كساعه
                                                                                      فلم لا أكون ضنينا بها     وأجعلها في صلاح وطاعه



                                                                                      أخبرنا ابن سلامة كتابة ، عن القاسم بن علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا رزين بن معاوية بمكة ، أخبرنا الفقيه علي بن عبد الله الصقلي بمكة ، حدثنا أبو الوليد القاضي ، حدثنا يونس بن عبد الله القرطبي ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة ، وصلى بها .

                                                                                      كذا رواه ابن عساكر .

                                                                                      أنبأنا ابن علان وجماعة ، عن أبي طاهر الخشوعي ، عن أبي بكر [ ص: 543 ] محمد بن الوليد الفهري ( ح ) وأخبرنا عبد المؤمن بن خلف الحافظ ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الوهاب الزهري ، أخبرنا جدي أبو الطاهر بن عوف ، أخبرنا محمد بن الوليد الفهري ، أخبرنا أبو الوليد سليمان بن خلف ، أخبرنا يونس بن عبد الله مناولة ، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله الليثي ، أخبرنا عم أبي عبيد الله بن يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الذي تفوته صلاة العصر ، كأنما وتر أهله وماله .

                                                                                      وسمعته عاليا من أحمد بن هبة الله ، عن المؤيد بن محمد ، أخبرنا هبة الله بن سهل ، أخبرنا سعيد بن محمد ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، حدثنا مالك بهذا .

                                                                                      وسمعناه في جزء أبي الجهم من حديث الليث ، عن نافع . [ ص: 544 ]

                                                                                      قال أبو علي بن سكرة : مات أبو الوليد بالمرية في تاسع عشر رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة فعمره إحدى وسبعون سنة سوى أشهر ، فإن مولده في ذي الحجة من سنة ثلاث وأربعمائة .

                                                                                      ومات معه في العام مسند العراق أبو القاسم علي بن أحمد بن البسري البندار وشيخ المالكية بسبتة أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن العجوز الكتامي ومحدث نيسابور أبو بكر محمد بن يحيى بن إبراهيم بن محمد بن المزكي ومعمر بغداد أبو بكر أحمد بن هبة الله بن صدقة الدباس . وكان يذكر أن أصوله على أبي الحسين بن سمعون والمخلص ذهبت في النهب .

                                                                                      أخبرنا محمد بن عبد الكريم المقرئ ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد سنة خمس وثلاثين ، أخبرنا أبو الطاهر إسماعيل بن مكي الزهري قراءة عليه سنة 572 ، أخبرنا أبو بكر الفهري ، أخبرنا أبو الوليد الباجي ، أخبرنا يونس بن عبد الله القاضي ، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله ، عن عم أبيه عبيد الله [ بن ] يحيى بن يحيى ، عن أبيه ، عن مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أنس أنه سمعه يقول : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ، ولا بالأبيض [ ص: 545 ] الأمهق ولا بالأدم ، ولا بالجعد القطط ولا بالسبط ، بعثه الله على رأس أربعين سنة ، فأقام بمكة عشر سنين ، وتوفاه الله على رأس ستين سنة ، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية