الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 426 ] ابن هبيرة

                                                                                      الوزير الكامل ، الإمام العالم العادل عون الدين ، يمين الخلافة ، أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم ، الشيباني الدوري العراقي الحنبلي ، صاحب التصانيف .

                                                                                      مولده بقرية بني أوقر من الدور أحد أعمال العراق في سنة تسع وتسعين وأربعمائة .

                                                                                      ودخل بغداد في صباه ، وطلب العلم ، وجالس الفقهاء ، وتفقه بأبي الحسين بن القاضي أبي يعلى والأدباء ، وسمع الحديث ، وتلا بالسبع ، وشارك في علوم الإسلام ، ومهر في اللغة ، وكان يعرف المذهب والعربية والعروض ، سلفيا أثريا ، ثم إنه أمضه الفقر ، فتعرض للكتابة ، وتقدم ، وترقى ، وصار مشارف الخزانة ، ثم ولي ديوان الزمام للمقتفي لأمر الله ، ثم وزر له في سنة 544 ، واستمر ووزر من بعده لابنه المستنجد .

                                                                                      وكان دينا خيرا متعبدا عاقلا وقورا متواضعا ، جزل الرأي ، بارا [ ص: 427 ] بالعلماء ، مكبا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه ، كبير الشأن ، حسنة الزمان .

                                                                                      سمع أبا عثمان بن ملة ، وهبة الله بن الحصين ، وخلقا بعدهما .

                                                                                      وسمع الكثير في دولته ، واستحضر المشايخ ، وبجلهم ، وبذل لهم .

                                                                                      قال ابن الجوزي كان يجتهد في اتباع الصواب ، ويحذر من الظلم ولا يلبس الحرير ، قال لي : لما رجعت من الحلة ، دخلت على المقتفي ، فقال لي : ادخل هذا البيت ، وغير ثيابك ، فدخلت ، فإذا خادم وفراش معهم خلع الحرير ، فقلت : والله ما ألبسها . فخرج الخادم ، فأخبر الخليفة ، فسمعت صوته يقول : قد والله قلت : إنه ما يلبسه .

                                                                                      وكان المقتفي معجبا به ، ولما استخلف المستنجد ، دخل ابن هبيرة عليه ، فقال : يكفي في إخلاصي أني ما حابيتك في زمن أبيك ، فقال : صدقت .

                                                                                      قال : وقال مرجان الخادم : سمعت المستنجد بالله ينشد وزيره ، وقد قام بين يديه في أثناء مفاوضة ترجع إلى تقرير قواعد الدين والصلاح ، وأنشده لنفسه [ ص: 428 ]

                                                                                      ضفت نعمتان خصتاك وعمتا فذكرهما حتى القيامة يذكر     وجودك والدنيا إليك فقيرة
                                                                                      وجودك والمعروف في الناس ينكر     فلو رام يا يحيى مكانك جعفر
                                                                                      ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر     ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا ال
                                                                                      مظفر إلا كنت أنت المظفر

                                                                                      قال ابن الجوزي وكان مبالغا في تحصيل التعظيم للدولة ، قامعا للمخالفين بأنواع الحيل ، حسم أمور السلاطين السلجوقية ، وقد كان آذاه شحنة في صباه ، فلما وزر ، استحضره وأكرمه ، وكان يتحدث بنعم الله ، ويذكر في منصبه شدة فقره القديم ، وقال : نزلت يوما إلى دجلة وليس معي رغيف أعبر به .

                                                                                      وكان يكثر مجالسة العلماء والفقراء ، ويبذل لهم الأموال ، فكانت السنة تدور وعليه ديون ، وقال : ما وجبت علي زكاة قط . وكان إذا استفاد شيئا من العلم ، قال : أفادنيه فلان . وقد أفدته معنى حديث ، فكان يقول : أفادنيه ابن الجوزي ، فكنت أستحيي ، وجعل لي مجلسا في داره كل جمعة ، ويأذن للعامة في الحضور .

                                                                                      وكان بعض الفقراء يقرأ عنده كثيرا ، فأعجبه ، وقال لزوجته : أريد أن أزوجه بابنتي ، فغضبت الأم . وكان يقرأ عنده الحديث كل يوم بعد العصر ، فحضر فقيه مالكي ، فذكرت مسألة ، فخالف فيها الجمع ، وأصر ، فقال الوزير : أحمار أنت ! أما ترى الكل يخالفونك ؟!

                                                                                      فلما كان من الغد ، قال للجماعة : إنه جرى مني بالأمس في حق هذا الرجل ما لا يليق ، فليقل لي كما قلت له ، فما أنا إلا كأحدكم ، فضج المجلس بالبكاء ، واعتذر الفقيه ، قال : أنا أولى بالاعتذار ، وجعل يقول : القصاص القصاص ، فلم يزل حتى قال يوسف الدمشقي : إذ أبى [ ص: 429 ] القصاص فالفداء ، فقال الوزير : له حكمه . فقال الفقيه : نعمك علي كثيرة ، فأي حكم بقي لي ؟ قال : لا بد . قال : علي دين مائة دينار . فأعطاه مائتي دينار ، وقال : مائة لإبراء ذمته ، ومائة لإبراء ذمتي .

                                                                                      وما أحلى شعر الحيص بيص فيه حيث يقول :

                                                                                      يهز حديث الجود ساكن عطفه     كما هز شرب الحي صهباء قرقف
                                                                                      إذا قيل عون الدين يحيى تألق ال     غمام وماس السمهري المثقف

                                                                                      قال ابن الجوزي كان الوزير يتأسف على ما مضى ، ويندم على ما دخل فيه ، ولقد قال لي : كان عندنا بالقرية مسجد فيه نخلة تحمل ألف رطل ، فحدثت نفسي أن أقيم في ذلك المسجد ، وقلت لأخي مجد الدين : أقعد أنا وأنت ، وحاصلها يكفينا ، ثم انظر إلى ما صرت . ثم صار يسأل الله الشهادة ، ويتعرض لأسبابها .

                                                                                      وفي ليلة ثالث عشر جمادى الأولى سنة ستين وخمسمائة استيقظ وقت السحر ، فقاء ، فحضر طبيبه ابن رشادة ، فسقاه شيئا ، فيقال : إنه سمه ، فمات ، وسقي الطبيب بعده بنصف سنة سما ، فكان يقول : سقيت فسقيت ، فمات .

                                                                                      ورأيت أنا وقت الفجر كأني في دار الوزير وهو جالس ، فدخل رجل بيده حربة ، فضربه بها ، فخرج الدم كالفوارة ، فالتفت فإذا خاتم ذهب ، فأخذته ، وقلت : لمن أعطيه ؟ أنتظر خادما يخرج فأسلمه إليه ، فانتبهت ، فأخبرت من كان معي ، فما استتممت الحديث حتى جاء رجل ، فقال : مات الوزير ، فقال رجل : هذا محال ، أنا فارقته في عافية أمس العصر ، فنفذوا إلي ، وقال لي ولده : لا بد أن تغسله ، [ ص: 430 ] فغسلته ، ورفعت يده ليدخل الماء في مغابنه ، فسقط الخاتم من يده حيث رأيت ذلك الخاتم ، ورأيت آثارا بجسده ووجهه تدل على أنه مسموم ، وحملت جنازته إلى جامع القصر ، وخرج معه جمع لم نره لمخلوق قط ، وكثر البكاء عليه لما كان يفعله من البر والعدل ، ورثته الشعراء .

                                                                                      قلت : له كتاب " الإفصاح عن معاني الصحاح " شرح فيه " صحيحي " البخاري ومسلم في عشر مجلدات ، وألف كتاب " العبادات " على مذهب أحمد ، وله أرجوزة في المقصور والممدود ، وأخرى في علم الخط ، واختصر كتاب " إصلاح المنطق " لابن السكيت .

                                                                                      وقيل : إن الحيص بيص دخل على الوزير ، فقال الوزير : قد نظمت بيتين ، فعززهما :

                                                                                      زار الخيال نحيلا مثل مرسله     فما شفاني منه الضم والقبل
                                                                                      ما زارني الطيف إلا كي يوافقني     على الرقاد فينفيه ويرتحل

                                                                                      [ ص: 431 ] فقال الحيص بيص بديها :

                                                                                      وما درى أن نومي حيلة نصبت     لوصله حين أعيا اليقظة الحيل

                                                                                      قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي وقد اضطر ورثة الوزير ابن هبيرة إلى بيع ثيابهم وأثاثهم ، وبيعت كتب الوزير الموقوفة على مدرسته ، حتى لقد أبيع " البستان " لأبي الليث السمرقندي في الرقائق بخط منسوب وكان مذهبا بدانقين وحبة ، وقيمته عشرة دنانير ، فقال واحد : ما أرخص هذا البستان! فقال جمال الدين بن الحصين : لثقل ما عليه من الخراج -يشير إلى الوقفية- فأخذ وضرب وحبس .

                                                                                      قلت : وزر بعده الوزير أبو جعفر أحمد بن البلدي فشرع في تتبع بني هبيرة ، فقبض على ولدي عون الدين محمد وظفر ثم قتلهما ، وجرى بلاء عظيم ، نسأل الله السلامة بمنه .

                                                                                      قرأت على أحمد بن إسحاق بن الوبري ، أخبرك الحسن بن إسحاق الكاتب ، أخبرنا أبو المظفر يحيى بن محمد الوزير قال : قرأت على المقتفي لأمر الله محمد بن أحمد العباسي ، حدثكم أبو البركات أحمد بن عبد [ ص: 432 ] الوهاب السيبي ، أخبرنا عبد الله بن محمد الصريفيني ( ح ) وأخبرنا أحمد ، أخبرنا المبارك بن أبي الجود ، أخبرنا أحمد بن أبي غالب ، أخبرنا عبد العزيز بن علي ، قالا : أخبرنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا أبو حامد الحضرمي ، حدثنا عيسى بن مساور ، حدثنا يغنم بن سالم ، حدثنا أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : طوبى لمن رآني وآمن بي ، ومن رأى من رآني ، ومن رأى من رأى من رآني .

                                                                                      هذا الحديث تساعي لنا ; لكنه واه لضعف يغنم ، فإنه مجمع على تركه .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية