أما ترضون أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة

18-5-2009 | إسلام ويب

السؤال:
نحن 3 بنات وشاب، الحمد لله متدينون وعلى خلق كريم ونحتل مراكز مرموقة، وأعمارنا تتراوح من 30 سنة وحتى 36 سنة لم نتزوج حتى الآن ولا يتقدم لنا أحد، لعل هذا ابتلاء من الله ولكن منذ أيام تم الإعلان عن زفاف مغنية من رجل أعمال ملياردير بتكلفة فرح 88 مليون جنيه بخلاف مهرها وشبكتها وما إلى ذلك. سؤالي: هل العري والسفه يقدر بل ويسعى الجميع للمنافسة على الفوز به، وبنات الناس المحترمة واللاتي يحافظن على أنفسهن لا يقدرن. هل هناك حكمة وراء ذلك لأن هذه المرأة مثال لكثير من المغنيين والممثلات؟

الإجابــة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنذكر السائلة أولاً بركن الدين العظيم وعماده القويم ألا وهو الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء ثقة بالله وبعلمه وحكمته وتوكلاً عليه سبحانه، فإن الله سبحانه قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا. {الفرقان:2}. وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا.{الأحزاب:38}.

 فعلى العبد أن يعلم علم اليقين أن ما قدره الله له هو الخير المحض، وأن يكف النفس عن البحث فيما وراء ذلك فإن هذا مما استأثر الله بعلمه. يقول الطحاوي رحمه الله: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.

وليتذكر العبد أن هذا الباب كان من أسباب ضلال إبليس عندما فضل الله عليه آدم فاعترض على ربه وصار من الكافرين، فقال: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ. يقول الطحاوي رحمه الله: فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في محض الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً. انتهى.

والزواج وإن كان من نعم الله سبحانه على عباده إلا أن تيسيره للعبد ليس دليلاً على حب الله له أو كرامته عليه، كما أن تأخره ليس دليلاً على هوان العبد على ربه، فها هم الكفرة المشركون يتزوجون ويرزقون الذرية، ويتنعمون بأنواع الملاذ في الدنيا ثم يستعملون هذا كله في الكفر بالله وحربه وحرب دينه وأوليائه، ثم الله يزيد لهم في المال والولد إملاء واستدراجاً، وهذا من هوان الدنيا على الله سبحانه أن يحرم منها أولياءه، ويكيل منها لأعدائه كيلاً، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

ولو تأملت أيتها السائلة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على ربه لرأيت تصديق هذا، فقد لاقى من ضيق العيش وشدته ما لا يصبر عليه غيره، وقد كان يمضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة وطعامه وطعام أهل بيته لا يزيد على التمر والماء، وكان ينام على الحصير الخشن حتى يؤثر ذلك في جنبه، ولو شاء لسأل الله أن يجعل جبال مكة له ذهباً. فمعيار الكرامة على الله ليس بسعة الدنيا ولا بضيقها، قال سبحانه: فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كلا. {الفجر:15-16}. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: يقول تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، قال الله (كلا) أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر.

وفي النهاية نوصيكن جميعاً بتقوى الله والمداومة على ذكره وشكره، ثم الإكثار من الدعاء أن ييسر الله لكن الزواج وأن يبارك لكن فيه، فإنه سبحانه بيده خزائن الرحمة والبركة، وما من نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة وبلية تحفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة، فلا ضيق مع رحمة الله إنما الضيق في إمساك رحمته عن عبده. فإن الله يرزق عبده أو أمته الزواج مع رحمته وبركته فإذا الزواج مودة ورحمة وسكن وألفة، فإذا أمسك عنهم رحمته فإذا الزواج همّ عميم وعذاب أليم، ولا تزال الخلافات والمشكلات بين الزوجين وأهلهما وأولادهما حتى ينتهي الأمر بالطلاق والفراق. ويهب الذرية مع رحمته فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته عنها فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار.

 وكل النعم والعطايا تتغير وتتبدل من حال إلى حال حسب انفتاح رحمة الله أو إمساكها، قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. {فاطر:2}.

 ولا تغتري بحال العصاة المسرفين على أنفسهم فإنهم وإن كانت حياتهم في الظاهر فرحاً وسروراً إلا أنها في حقيقة الأمر لهو ووحشة ونفور، وإن ذل المعصية في رقابهم لا يفارقهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

والله أعلم.

www.islamweb.net