الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

شبهات وأباطيل حول القرآن تفنيدها والرد عليها

السؤال

إني جورج شمشون، لدي بعض الأسئلة أود من حضراتكم الإجابة عنها:
س1 في السور والآيات التالية (المائدة آية 41 وكذلك 13 والنساء الآية 46) نجد أن الآيات تذكر كلمة التحريف، ولكن نجد أن التحريف وقع في التوراة فقط، وأتحدى أن تكون هناك أية تدعي التحريف في الإنجيل، مع العلم أن معنى التحريف هنا حسب القرطبي يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله. وَذَمَّهُمْ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مُتَعَمِّدِينَ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ " الْكَلَام. قَالَ النَّحَّاس: و "الْكَلِم" فِي هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَرِّفُونَ كَلِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَا عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَلَيْسَ يُحَرِّفُونَ جَمِيع الْكَلَام. أي أن التحريف يقصد به التأويل، وهدا وارد في القران حيث إن كل مفسر يؤوله حسب رأيه، وأن المقصود بالتحريف هو محمد الذي تدعون أنه مكتوب في التوراة والإنجيل.
وكذلك تجد أن في القران آيات وهي: (المائدة آية 44 وكذلك 46 والإسراء 2) حيث يصف التوراة والإنجيل بالهدى ونور، وأن المسيح جاء مصدقاً للتوراة، ومن هذه الآيات نستنتج:
أ‌- تناقض القرآن نفسه في آياته، مرة يقول إن التوراة والإنجيل هدى ونور، ومرة أخرى يدعي التحريف، وقد أثبتنا أن التحريف في المعنى وهذا وارد حتى في القران، والدليل كثرة التفاسير.
ملاحظة: المعلوم أن الآيات أعلاه نزلت في زمن محمد نفسه.
ب- بالرجوع إلى سورة الحج الآية 52 وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ نجد في تفسير الآية التالي وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول" هُوَ نَبِيّ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ "وَلَا نَبِيّ" أَيْ لَمْ يُؤْمَر بِالتَّبْلِيغِ "إلَّا إذَا تَمَنَّى" قَرَأَ "أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أَمْنِيَّته" قِرَاءَته مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآن مِمَّا يَرْضَاهُ الْمُرْسَل إلَيْهِمْ وَقَدْ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَة النَّجْم بِمَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْش بَعْد: "أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى" بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَان عَلَى لِسَانه مِنْ غَيْر عِلْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيق الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتهنَّ لَتُرْتَجَى فَفَرِحُوا بِذَلِكَ ثُمَّ أَخْبَرَهُ جِبْرِيل بِمَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان عَلَى لِسَانه مِنْ ذَلِكَ فَحَزِنَ فَسُلِّيَ بِهَذِهِ الْآيَة لِيَطْمَئِنّ "فَيَنْسَخ اللَّه" يُبْطِل "مَا يُلْقِي الشَّيْطَان ثُمَّ يُحْكِم اللَّه آيَاته" يُثَبِّتهَا "وَاَللَّه عَلِيم" بِإِلْقَاءِ الشَّيْطَان مَا ذُكِرَ "حَكِيم" فِي تَمْكِينه مِنْهُ بِفِعْلِ مَا يَشَاء.
فقل لي بربك كم من الآيات ألقاها الشيطان على لسان محمد ولم ينسخها الله لمحمد، لذلك فإن من الوارد أن تكون أغلب آيات القران من وحي الشيطان على أنه هناك آية يدعي فيها الله لكل نبي عدو شيطان مبين الأنعام آية 112.
والأمر المعروف أن القران تم جمعه جمعاً كاملاً في عهد عثمان بن عفان، وهو إنسان وليس بنبي غير قابل للخطأ، مع أن نبيه محمدًا أخطأ كثيرًا، ولا مجال لذكر الآيات، ولكن على سبيل الذكر سورة عبس الآية 1 عَبَسَ وَتَوَلَّى، وهذا جزء من تفسير القرطبي، قَالَ الثَّوْرِيّ: فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْد ذَلِكَ إِذَا رَأَى اِبْن أُمّ مَكْتُوم يَبْسُط لَهُ رِدَاءَهُ وَيَقُول: مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي. وَيَقُول: هَلْ مِنْ حَاجَة؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى هذا غيض من فيض فما الذي يمنع أن يكون عثمان قد أضاف أو حذف من القرآن وإلا فما سبب قتله راجح كتاب المصاحف للسجستاني؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن كلا من الكتب المنزلة من عند الله من كلام الله، ويشمل ذلك القرآن الكريم والتوراة والإنجيل الصحيحين قبل تحريفهما، فكل منهما منزل من عند الله ويجب الإيمان به؛ لقوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى {البقرة: 136}، وقال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ {المائدة: 44}.

وقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون {القصص:43}. وقال تعالى في شأن عيسى: وَآتَيْنَاهُ الْإنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ {المائدة: 46}.

فهو سبحانه وتعالى زكى في القرآن الكتب المنزلة من عنده، وأما الإنجيل الذي يوجد الآن، فإنه يختلط فيه كلام الحواريين والقصاصين والمضلين بالإنجيل الأصلي.

والجرم الأكبر الذي عمله النصارى تركهم ما أمروا به، وعملهم بما قاله واعتمده القساوسة الضالون من تحريف وزيد ونقص وتحليل وتحريم وغير ذلك مما لم ينزل الله به سلطانا حتى وقعوا في الشرك بالله والتثليث ونسبة الولد لله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال الله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا{مريم: 88 – 95}. وقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا {الكهف:4، 5}. وقال تعالى: يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا {النساء: 171}، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ {المائدة: 72-77}، وقال الله تعالى في تركهم أمره وإخفائهم بعض ما نزل في كتابه: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ {المائدة: 14- 15}.

وقال في خلطهم الحق بالباطل مخاطبا نصارى نجران: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {آل عمران:71}.

وعن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه. رواه الترمذي وغيره، وحسنه الألباني.

وقال ابن كثير: ورواه الإمام أَحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أَنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأُسرت أُخته وجماعة من قومه، ثم منًَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُخته وأَعطاها فرجعت إلى أَخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة وكان رئيسًا في قومه طيء وأَبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأُ هذه الآية: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) قال: فقلت: انهم لم يعبدوهم. فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأَحلوا لهم الحرام فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عدي ما تقول أيفرك أَن يقال الله أكبر فهل تعلم شيئًا أَكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أَن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلهًا غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأَسلم فشهد شهادة الحق. قال فلقد رأَيت وجهه استبشر، ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون)). اهـ.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث، تقرؤونه محضًا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلًا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. رواه البخاري.

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كانت ملوك بعد عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام- بدلوا التوراة والإنجيل. رواه النسائي، وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد موقوف.

ثم إن الإنجيل الموجود يكفي في ثبوت تحريفه ما وقع فيه من قصة صلب المسيح -عليه الصلاة والسلام-، وأنه صلب ومات يوم كذا ودفن في القبر، فهذا قطعا ليس في الإنجيل الصحيح المنزل على عيسى -عليه السلام- ولا يقبله عاقل لأنه إخبار عن شيء حصل بعد وفاة من نزل عليه الكتاب ونقله لأمته فمن كتب هذا الكلام فقد حرف في الإنجيل بالزيادة.

ويضاف لهذا ما في الإنجيل الموجود حاليا من تناقضات وتداخلات بين النسخ التي يكذب بعضها بعضا كما سنبينه لاحقا.

ومن أهم النصوص التي حرفت في الإنجيل؛ تلك النصوص التي تدعو إلى عبادة الله وحده دون سواه، والتي تبين أن الإله سبحانه حي قيوم غني عن خلقه، خالق مالك مدبر، ليس له صاحبة ولا ولد، ومن أهم النصوص التي حرفت في الإنجيل تلك النصوص التي تشير إلى مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- وتدعو إلى الإيمان به.

ومما يدل لتحريف الألفاظ من ناحية الواقع أن الإنجيل ترسبت فيه أفكار بولس اليهودي الماكر، فلم يبق مما جاء به عيسى -عليه السلام- إلا النزر اليسير شيء، بل بدلت ملته، وحرفت، واستبدل النصارى التوحيد بالشرك.

فبولس هو أول من حرف في دين النصارى، فقد كان بولس نظرًا لاستعارته من فلاسفة اليونان فكرة اتصال الإله بالأرض عن طريق الكلمة أو ابن الإله أو الروح القدس، وترتيبه على ذلك القول بعقيدة الصلب والفداء وقيامة المسيح وصعوده إلى السماء ليجلس على يمين الرب ليحاسب الناس في يوم المحشر.

ومن نظر في الأناجيل الأربعة وجد كثيرا من الاختلافات الجوهرية والأغلاط التي يستحيل معها: أن يكون هذا الموجود بين أيديهم موحى به من عند الله.

وقد بين العلامة رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" وجود 125 اختلافا وتناقضا في كتابهم المقدس، ووجود 110 من الأغلاط التي لا تصح بحال، ووجود 45 شاهدًا على التحريف اللفظي بالزيادة، وعشرين شاهدًا على التحريف اللفظي بالنقصان فننصح المهتم بهذا الموضوع أن يرجع إلى هذا الكتاب وهو مفيد جدا في بابه.

وحسبك من اختلافهم: اختلافهم في نسب (المسيح). فقد أعطاه متى نسبًا مخالفًا لما دونه لوقا.

1. فمتى نسب المسيح إلى يوسف بن يعقوب وجعله في النهاية من نسل سليمان بن داود. أما لوقا فنسبه إلى يوسف بن هالي، وجعله في النهاية من نسل ناثان بن داود عليه السلام.

2. أن متى جعل آباء المسيح إلى داود -عليه السلام- سبعة وعشرين أبا، أما لوقا فجعلهم اثنين وأربعين أبا. ومع هذا الاختلاف الشديد ففيه من الغلط ما لا يليق بكتاب مقدس، إذ كيف ينسب عيسى إلى يوسف النجار(خطيب مريم)، فإن هذا تصديق لطعن اليهود في مريم وافترائهم عليها، وكان الواجب على النصارى أن ينسبوه إلى أمه مريم -عليها السلام-، وكيف يكون متى معصوماً أو ملهمًا من الروح القدس وهو يجهل نسب عيسى ويسقط من آبائه خمسة عشر رجلا؟!

وكذلك الاختلاف في تعيين أسماء الحواريين أصحاب عيسى -عليه السلام-، فإن متى ولوقا ذكرا منهم: لباوس الملقب تداوس، فجاء لوقا فحذفه، ووضع بدلا عنه يهوذا أخا يعقوب. فهل يمكن أن يكون كتاب موحى به من الله يجهل أسماء الحواريين؟

3. ومن الأغلاط الظاهرة قول متى في إنجيله بعد الصلب المزعوم للمسيح: (وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت والصخور تفتقت والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للكثيرين). فهذه الآية التي - لو حدثت - لنقلت بالتواتر، لأنها آية عظيمة تتوافر الهمم على نقلها، لكن لم يعلم بها أصحاب الأناجيل الثلاثة: لوقا ومرقص ويوحنا مع اهتمامهم بذكر أمور بسيطة لا تدعو حاجة ولا ضرورة إلى ذكرها مما يدل على أنه محض خيال توهمه الكاتب.

4. ومن ذلك أيضا ما جاء في إنجيل لوقا (1/30) في البشارة بالمسيح قوله: ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية. وهذا خطأ فاحش فإن المسيح لم يكن ملكا لليهود، ولا ملكا على آل يعقوب ولا حصل له شيء من ذلك، فهل يتخلف وعد الله؟ فهذا كله وأضعافه مما يورث اليقين بأن هذه الأناجيل ليست هي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، وأنها لا تعدو أن تكون اجتهادات من تلاميذ المسيح لعرض سيرته، وهي من البعد عن العصمة والإلهام بمكان.

قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: وَأَمَّا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى: ‌فَهِيَ ‌أَرْبَعَةُ ‌أَنَاجِيلَ إِنْجِيلُ مَتَّى وَيُوحَنَّا وَلُوقَا وَمُرْقُسَ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُوقَا وَمُرْقُسَ لَمْ يَرَيَا الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا رَآهُ مَتَّى وَيُوحَنَّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْإِنْجِيلَ، وَقَدْ يُسَمُّونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنْجِيلًا، إِنَّمَا كَتَبَهَا هَؤُلَاءِ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ الْمَسِيحُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا أَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ الْمَسِيحَ، بَلَّغَهَا عَنِ اللَّهِ، بَلْ نَقَلُوا فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا كُلَّ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ وَرَأَوْهُ، فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالْمَغَازِي عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا، فَالْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ شِبْهُ كِتَابِ السِّيرَةِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، أَوْ مِثْلُ هَذِهِ الْكُتُبِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا صَحِيحًا.

وَمَا قَالَهُ عليه السلام، فَهُوَ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ يَجِبُ فِيهِ تَصْدِيقُ خَبَرِهِ وَطَاعَةُ أَمْرِهِ كَمَا قَالَهُ الرَّسُولُ مِنَ السُّنَّةِ فَهُوَ يُشْبِهُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَذْكُرُ الرَّسُولُ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ كَقَوْلِهِ. يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُ بِالْحَرْبِ» وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا يَقُولُهُ هُوَ، وَلَكِنْ هُوَ أَيْضًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَهَكَذَا مَا يُنْقَلُ فِي الْإِنْجِيلِ وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مِنَ الْمَسِيحِ، فَأَمْرُ الْمَسِيحِ أَمْرُ اللَّهِ، وَمَنْ أَطَاعَ الْمَسِيحَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.
وَمَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَسِيحُ عَنِ الْغَيْبِ، فَاللَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ أَنْ يَكْذِبَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ. وَإِذَا كَانَ الْإِنْجِيلُ يُشْبِهُ السُّنَّةَ الْمُنَزَّلَةَ، فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا غَلَطٌ كَمَا يَقَعُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، ثُمَّ هَذِهِ الْكُتُبُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ (فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا - بَعْدَ اشْتِهَارِهَا وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا - أَنْ يُبَدِّلَهَا كُلَّهَا. لَكِنْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا غَلَطٌ وَقَعَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُشْتَهَرَ، فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ - وَإِنْ كَانَ عَدْلًا - فَقَدْ يَغْلَطُ)، لَكِنْ مَا تَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مِمَّا يَجْزِمُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ بِصِدْقِهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ. هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الطَّوَائِفِ كَجُمْهُورِ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْكِلَابِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهَا لِكَوْنِ الْوَاحِدِ قَدْ يَغْلَطُ أَوْ يَكْذِبُ، وَهَذَا الظَّنُّ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهُ وَضَبْطُهُ، أَمَّا إِذَا عُرِفَ صِدْقُهُ وَضَبْطُهُ، إِمَّا بِالْمُعْجِزَاتِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَإِمَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ لَهُ فِيمَا يَقُولُ وَإِمَّا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ عَلَى صِدْقِهِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، أَوِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، أَوْ ظُهُورِ دَلَائِلَ وَشَوَاهِدَ وَقَرَائِنَ احْتَفَّتْ بِخَبَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَهَذِهِ يَجِبُ مَعَهَا الْحُكْمُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يَغْلَطْ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ أَمْكَنَ كَذِبُهُ أَوْ غَلَطُهُ كَمَا أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ لَا يُجْزَمُ بِكَذِبِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا قِيَامِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ عَلَى أَنَّهُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَيُجْزَمُ بِبُطْلَانِ خَبَرِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُخْبِرُ إِمَّا كَاذِبًا أَوْ غَالِطًا، وَقَدْ يُعْلَمُ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ نَبِيِّهِمْ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ وَمَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ عَلَى تَصْدِيقِهِ، وَمَا قَامَتْ دَلَائِلُ صِدْقِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ مِثْلُ: أَنْ يُخْبِرَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاطَؤوا عَلَى الْكَذِبِ بِخَبَرٍ يَقُولُونَ إِنَّ أُولَئِكَ عَايَنُوهُ وَشَاهَدُوهُ فَيُقِرُّونَهُمْ عَلَى هَذَا وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَيُعْلَمُ بِالْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا لَامْتَنَعَ اتِّفَاقُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تَكْذِيبِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، وَإِذَا نَقَلَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ مَا تُوجِبُ الْعَادَةُ اشْتِهَارَهُ وَظُهُورَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ، وَنَقَلُوهُ مُسْتَخْفِينَ بِنَقْلِهِ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَلَى رُءُوسِ الْجُمْهُورِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ.

وَدَلَائِلُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبِهِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، وَعِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةَ الصِّدْقِ بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ كَتَصْدِيقِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ وَدَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُمْ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمْ لَا يَحْتَاجُونَ فِي حِفْظِهِ إِلَى كِتَابٍ مَسْطُورٍ، فَلَوْ عُدِمَتِ الْمَصَاحِفُ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيمَا حَفِظُوهُ.

بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَتْ نُسَخُ الْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِهِ نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ بِأَلْفَاظِهَا إِذْ لَا يَحْفَظُهَا -إِنْ حَفِظَهَا- إِلَّا قَلِيلٌ لَا يُوثَقُ بِحِفْظِهِمْ فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ انْقِطَاعِ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ يَقَعُ فِيهِمْ مِنْ تَبْدِيلِ الْكُتُبِ إِمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا، وَإِمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا مَا لَمْ يَقُومُوا بِتَقْوِيمِهِ أمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا، وَإِمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا مَا لَمْ يَقُومُوا بِتَقْوِيمِهِ. وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمِ الْإِسْنَادُ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا لَهُمْ كَلَامٌ فِي نَقَلَةِ الْعِلْمِ وَتَعْدِيلِهِمْ وَجَرْحِهِمْ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ نَقَلَةِ الْعِلْمِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَامَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ، بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ لَمَّا كَذَّبُوا الْمَسِيحَ. ثُمَّ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِذَا كَانَتِ الْكُتُبُ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ تَكُنْ مُتَوَاتِرَةً عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ. فَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَفْعَالِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ وَفِيهَا مَا هُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ، بِلَا شَكٍّ، وَالَّذِي كَتَبَهَا فِي الْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا مَا سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ وَرَآهُ ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمَّةٌ مَعْصُومَةٌ يَكُونُ تَلَقِّيهَا لَهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهَا لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ عَلَى الْخَطَأِ وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. وَقِصَّةُ الصَّلْبِ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَسِيحَ عليه السلام، بَلْ شَبَهَهُ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْمَسِيحَ مَصْلُوبًا، بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِصَلْبِهِ بَعْضُ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ (فَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ أُولَئِكَ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] عَنْ أُولَئِكَ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي (شُبِّهَ لَهُمْ) عَنِ السَّامِعِينَ لِخَبَرِ أُولَئِكَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَغْلَطُوا فِي هَذَا، وَلَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ فِي نَقْلِهِ جَازَ أَنْ يَغْلَطُوا فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي رِسَالَةِ الْمَسِيحِ، وَلَا فِيمَا تَوَاتَرَ نَقْلُهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، سَوَاءٌ صُلِبَ أَوْ لَمْ يُصْلَبْ، وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءٌ صُلِبَ أَوْ لَمْ يُصْلَبْ وَالْحَوَارِيُّونَ مُصَدَّقُونَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ لَا يُتَّهَمُونَ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ لَكِنْ إِذَا غَلِطَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُهُ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَعْلُومًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي غَلِطَ فِيهِ مِمَّا تَبَيَّنَ غَلَطُهُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّصَارَى فِي عَامَّةِ مَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ حَتَّى فِي الصَّلْبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَصْلُوبُ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحَ، بَلِ الشَّبَهَ كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَيُنْكِرُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ كَالْأَرْيُوسِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الِاتِّحَادَ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْحُلُولِ كَالنَّسْطُورِيَّةِ​​​​​​​. اهـ.

واعلم أن العلماء اختلفوا في المقصود بالتحريف على أربعة أقوال. قال الحافظ في الفتح: وقال بعض الشراح المتأخرين اختلف في هذه المسألة على أقوال:
أحدها: أنها بدلت كلها وهو مقتضى القول الممكن بجواز الامتهان وهو إفراط، وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر، وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء لم تبدل.. من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ {الأعراف:157}.

ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {آل عمران:93}.

ثانيها: أن التبديل وقع ولكن في معظمهما وأدلته كثيرة وينبغي حمل الأول عليه.

ثالثها: وقع في اليسير منها ومعظمها باق على حاله، ونصره الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه الرد الصحيح على من بدل دين المسيح.

رابعها: أنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ، وهو المذكور هنا -أي في كلام البخاري- وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة مجردا فأجاب في فتاويه: أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة منها: قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّه {الأنعام:34}. وهو معارض بقوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ {البقرة:181}. اهـ.

واعلم أن المراد بالتأويل الموجود في كتب التفسير المعتمدة تفسير القرآن بمعناه المراد ولا يراد به تحريف المعاني ومن هذا المعنى ما ثبت أن ابن عباس دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. أخرجه الإمام مسلم، فالمراد بالتأويل في الحديث هو فهم معاني القرآن الصحيحة.

وأما قصة الغرانيق فهي باطلة فقد قال ابن العربي: إنها باطلة لا أصل لها. اهـ

وقال الإمام الشوكاني في شأنها: ولم يصح شيء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته بل وبطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ {الحاقة:44-46}. وقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى {النَّجم:3}. وقوله تعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا {الإسراء:74}. فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون، قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل، وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وقال الإمام ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة، وقال القاضي عياض: في الشفاء إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا، ولا عمدا، ولا سهوا، ولا غلطا. اهـ.

وأما جمع عثمان للقرآن، فلم يكن جمعه له من نفسه حتى نقول بإمكانية الخطأ، وإنما جمع عثمان القرآن الذي كتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعهد أبي بكر -رضي الله عنه-، وقد قامت معه بالأمر لجنة من قراء الصحابة، ويكفي أن عثمان -رضي الله عنه- قد فعل ذلك والصحابة متوافرون، فلم ينكر عليه أحد، وقد نقل ابن أبي داود في كتاب المصاحف موافقة الصحابة له على ذلك.

وقال الزرقاني رحمه الله تعالى: وأما الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل ما في تلك الصحف في مصحف واحد إمام، واستنساخ مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية، ملاحظا فيها تلك المزايا السالف ذكرها، مع ترتيب سوره وآياته جميعا. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني