الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      عبد الله بن الزبير ( ع )

                                                                                      ابن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة ، أمير المؤمنين ، أبو بكر ؛ وأبو خبيب ، القرشي الأسدي المكي ثم المدني ، أحد الأعلام ، ولد الحواري الإمام أبي عبد الله ، ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريه .

                                                                                      مسنده نحو من ثلاثة وثلاثين حديثا . اتفقا له على حديث واحد ، وانفرد البخاري بستة أحاديث ، ومسلم بحديثين .

                                                                                      كان عبد الله أول مولود للمهاجرين بالمدينة . ولد سنة اثنتين وقيل : سنة إحدى . [ ص: 364 ]

                                                                                      وله صحبة ، ورواية أحاديث . عداده في صغار الصحابة ، وإن كان كبيرا في العلم ، والشرف ، والجهاد ، والعبادة .

                                                                                      وقد روى أيضا عن أبيه ، وجده لأمه الصديق ، وأمه أسماء ، وخالته عائشة ، وعن عمر ، وعثمان ، وغيرهم .

                                                                                      حدث عنه أخوه عروة الفقيه ، وابناه عامر ، وعباد ، وابن أخيه محمد بن عروة ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، وعطاء ، وابن أبي مليكة ، وعمرو بن دينار ، وثابت البناني ، وأبو الزبير المكي ، وأبو إسحاق السبيعي ، ووهب بن كيسان ، وسعيد بن ميناء ، وحفيداه : مصعب بن ثابت بن عبد الله ، ويحيى بن عباد بن عبد الله ، وهشام بن عروة ، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير وآخرون .

                                                                                      وكان فارس قريش في زمانه ، وله مواقف مشهودة . قيل : إنه شهد اليرموك وهو مراهق ، وفتح المغرب ، وغزو القسطنطينية ، ويوم الجمل مع خالته .

                                                                                      وبويع بالخلافة عند موت يزيد سنة أربع وستين ، وحكم على الحجاز ، واليمن ، ومصر ، والعراق ، وخراسان ، وبعض الشام . ولم يستوسق له الأمر ، ومن ثم لم يعده بعض العلماء في أمراء المؤمنين ، وعد دولته زمن فرقة ، فإنمروان غلب على الشام ثم مصر ، وقام عند مصرعه ابنه عبد الملك بن مروان ، وحارب ابن الزبير ، وقتل ابن الزبير - رحمه الله - فاستقل بالخلافة عبد الملك وآله ، واستوسق لهم الأمر ، إلى أن قهرهم بنو العباس بعد ملك ستين عاما .

                                                                                      قيل : إن ابن الزبير أدرك من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أعوام وأربعة أشهر ، وكان ملازما للولوج على رسول الله ، لكونه من آله ، فكان يتردد إلى [ ص: 365 ] بيت خالته عائشة .

                                                                                      شعيب بن إسحاق : عن هشام بن عروة ، عن أبيه وزوجته فاطمة قالا : خرجت أسماء حين هاجرت حبلى ، فنفست بعبد الله بقباء . قالت أسماء : فجاء عبد الله بعد سبع سنين ليبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك أبوه الزبير ، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه مقبلا ، ثم بايعه .

                                                                                      حديث غريب وإسناده قوي .

                                                                                      قال الواقدي : عن مصعب بن ثابت ، عن يتيم عروة أبي الأسود قال : لما قدم المهاجرون ، أقاموا لا يولد لهم . فقالوا : سحرتنا يهود ، حتى كثرت القالة في ذلك ، فكان أول مولود ابن الزبير ، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة حتى ارتجت المدينة ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فأذن في أذنيه بالصلاة .

                                                                                      وقال مصعب بن عبد الله ؛ عن أبيه ، قال : كان عارضا ابن الزبير خفيفين ، فما اتصلت لحيته حتى بلغ الستين .

                                                                                      وفي البخاري عن عروة ، أن الزبير أركب ولده عبد الله يوم اليرموك فرسا وهو ابن عشر سنين ، ووكل به رجلا . [ ص: 366 ]

                                                                                      التبوذكي : حدثنا هنيد بن القاسم : سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير : سمعت أبي يقول : إنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتجم ، فلما فرغ ، قال : يا عبد الله ! اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد ، فلما برز عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمد إلى الدم ، فشربه ، فلما رجع ، قال : ما صنعت بالدم ؟ قال : عمدت إلى أخفى موضع علمت ، فجعلته فيه ، قال : لعلك شربته ؟ قال : نعم . قال : ولم شربت الدم ؟ ويل للناس منك ، وويل لك من الناس .

                                                                                      قال موسى التبوذكي : فحدثت به أبا عاصم ، فقال : كانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم .

                                                                                      رواه أبو يعلى في " مسنده " وما علمت في هنيد جرحة .

                                                                                      خالد الحذاء : عن يوسف أبي يعقوب ، عن محمد بن حاطب ، والحارث ، قالا : طالما حرص ابن الزبير على الإمارة ، قلت : وما ذلك ؟ قالا : أتي رسول - صلى الله عليه وسلم - بلص ، فأمر بقتله . فقيل : إنه سرق . فقال : اقطعوه . ثم جيء به في إمرة أبي بكر ، وقد سرق ، وقد قطعت قوائمه . فقال أبو بكر : ما أجد لك شيئا إلا ما قضى فيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أمر بقتلك . فأمر بقتله أغيلمة من أبناء المهاجرين أنا فيهم . فقال ابن الزبير أمروني عليكم . فأمرناه ، فانطلقنا به إلى البقيع ، فقتلناه . . هذا خبر منكر فالله أعلم . [ ص: 367 ]

                                                                                      قال الحارث بن عبيد : حدثنا أبو عمران الجوني أن نوفا البكالي قال : إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء .

                                                                                      مهدي بن ميمون ، حدثنا محمد بن أبي يعقوب ، أن معاوية كان يلقى ابن الزبير ، فيقول : مرحبا بابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن حواري رسول الله ، ويأمر له بمائة ألف .

                                                                                      ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : ذكر ابن الزبير عند ابن عباس ، فقال : قارئ لكتاب الله ، عفيف في الإسلام ، أبوه الزبير ، وأمه أسماء ، وجده أبو بكر ، وعمته خديجة ، وخالته عائشة ، وجدته صفية . والله إني لأحاسب له نفسي محاسبة لم أحاسب بها لأبي بكر وعمر .

                                                                                      مسلم الزنجي : سمعت عمرو بن دينار يقول : ما رأيت مصليا قط أحسن صلاة من عبد الله بن الزبير . .

                                                                                      عبد الصمد بن عبد الوارث : حدثتنا ماطرة المهرية ، حدثتني خالتي أم جعفر بنت النعمان : أنها سلمت على أسماء بنت أبي بكر ، وعندها ابن الزبير ، فقالت : قوام الليل ، صوام النهار ، وكان يسمى حمامة المسجد .

                                                                                      قال ابن أبي مليكة : قال لي عمر بن عبد العزيز : إن في قلبك من ابن [ ص: 368 ] الزبير . قلت : لو رأيته ما رأيت مناجيا ولا مصليا مثله .

                                                                                      وروى حبيب بن الشهيد ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ، ويصبح في اليوم السابع وهو أليثنا .

                                                                                      قلت : لعله ما بلغه النهي عن الوصال . ونبيك - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رءوف رحيم ، وكل من واصل ، وبالغ في تجويع نفسه ، انحرف مزاجه ، وضاق خلقه ، فاتباع السنة أولى ، ولقد كان ابن الزبير مع ملكه صنفا في العبادة .

                                                                                      أخبرنا إسحاق بن طارق ، أخبرنا ابن خليل ، أخبرنا أحمد بن محمد ، أخبرنا الحداد ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا أبو حامد بن جبلة ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ، حدثنا أبو عاصم ، عن عمر بن قيس ، قال : كان لابن الزبير مائة غلام ، يكلم كل غلام منهم بلغة أخرى ، فكنت إذا نظرت إليه في أمر آخرته ، قلت : هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين . وإذا نظرت إليه في أمر دنياه ، قلت : هذا رجل لم يرد الله طرفة عين .

                                                                                      وقال مجاهد : كان ابن الزبير إذا قام إلى الصلاة ، كأنه عود ، وحدث [ ص: 369 ] أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان كذلك .

                                                                                      قال ثابت البناني : كنت أمر بابن الزبير ، وهو خلف المقام يصلي ، كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك .

                                                                                      روى يوسف بن الماجشون ، عن الثقة يسنده ، قال : قسم ابن الزبير الدهر على ثلاث ليال ؛ فليلة هو قائم حتى الصباح ، وليلة هو راكع حتى الصباح ، وليلة هو ساجد حتى الصباح .

                                                                                      يزيد بن إبراهيم التستري : عن عبد الله بن سعيد ، عن مسلم بن يناق ، قال : ركع ابن الزبير يوما ركعة ، فقرأنا بالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه .

                                                                                      قلت : وهذا ما بلغ ابن الزبير فيه حديث النهي .

                                                                                      قال يزيد بن إبراهيم : عن عمرو بن دينار ، قال : كان ابن الزبير يصلي في الحجر ، والمنجنيق يصب توبه فما يلتفت ، يعني : لما حاصروه .

                                                                                      وروى هشام بن عروة ، عن ابن المنكدر قال : لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن تصفقه الريح ، وحجر المنجنيق يقع هاهنا .

                                                                                      أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : ما رأيت أحدا أعظم [ ص: 370 ] سجدة بين عينيه من ابن الزبير .

                                                                                      مصعب بن عبد الله : حدثنا أبي ، عن عمر بن قيس ، عن أمه ؛ أنها دخلت على ابن الزبير بيته ، فإذا هو يصلي ، فسقطت حية على ابنه هاشم ، فصاحوا : الحية الحية ، ثم رموها ، فما قطع صلاته .

                                                                                      قال ميمون بن مهران : رأيت ابن الزبير يواصل من الجمعة إلى الجمعة ، فإذا أفطر ، استعان بالسمن حتى يلين .

                                                                                      ليث عن مجاهد : ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير ، ولقد جاء سيل طبق البيت ، فطاف سباحة .

                                                                                      وعن عثمان بن طلحة ، قال : كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة : شجاعة ، ولا عبادة ، ولا بلاغة .

                                                                                      إبراهيم بن سعد : عن الزهري ، عن أنس ؛ أن عثمان أمر زيدا ، وابن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوا المصاحف ، وقال : إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء ، فاكتبوه بلسان قريش ؛ فإنما نزل بلسانهم .

                                                                                      قال أبو نعيم : حدثنا عبد الواحد بن أيمن قال : رأيت على ابن الزبير رداء عدنيا يصلي فيه ، وكان صيتا ، إذا خطب ، تجاوب الجبلان . وكانت له جمة إلى العنق ، ولحيته صفراء . [ ص: 371 ]

                                                                                      مصعب بن عبد الله ، حدثنا أبي ، والزبير بن خبيب قالا : قال ابن الزبير : هجم علينا جرجير في عشرين ومائة ألف ، فأحاطوا بنا ونحن في عشرين ألفا - يعني : نوبة إفريقية .

                                                                                      قال : واختلف الناس على ابن أبي سرح ، فدخل فسطاطه ، فرأيت غرة من جرجير ؛ بصرت به خلف عساكره على برذون أشهب ، معه جاريتان تظللان عليه بريش الطواويس ، بينه وبين جيشه أرض بيضاء ، فأتيت أميرنا ابن أبي سرح ، فندب لي الناس ، فاخترت ثلاثين فارسا ، وقلت لسائرهم : البثوا على مصافكم ، وحملت ، وقلت لهم : احموا ظهري ، فخرقت الصف إلى جرجير ، وخرجت صامدا ، وما يحسب هو ولا أصحابه إلا أني رسول إليه ، حتى دنوت منه ، فعرف الشر ، فثابر برذونه موليا ، فأدركته ، فطعنته ، فسقط ، ثم احتززت رأسه فنصبته على رمحي ، وكبرت ، وحمل المسلمون ، فارفض العدو ومنح الله أكتافهم .

                                                                                      معمر : عن هشام بن عروة ، قال : أخذ ابن الزبير من وسط القتلى يوم الجمل ، وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة .

                                                                                      وقيل : إن عائشة أعطت يومئذ لمن بشرها بسلامته عشرة آلاف . وعن عروة ، قال : لم يكن أحد أحب إلى عائشة بعد رسول الله من أبي بكر ، وبعده ابن الزبير . [ ص: 372 ]

                                                                                      قال الواقدي : حدثنا ربيعة بن عثمان ، وابن أبي سبرة وغيرهما قالوا : جاء نعي يزيد في ربيع الأخر سنة أربع وستين ، فقام ابن الزبير ، فدعا إلى نفسه ، وبايعه الناس . فدعا ابن عباس ، وابن الحنفية إلى بيعته ، فامتنعا ، وقالا : حتى يجتمع لك الناس ، فداراهما سنتين ، ثم إنه أغلظ لهما ، ودعاهما ، فأبيا .

                                                                                      قال مصعب بن عبد الله وغيره : كان يقال لابن الزبير : عائذ بيت الله .

                                                                                      وقال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن عمته أم بكر ، قال : وحدثني شرحبيل بن أبي عون ، عن أبيه ، وحدثنا ابن أبي الزناد وغيرهم قالوا : لما نزل ابن الزبير بالمدينة في خلافة معاوية ، إلى أن قالوا : فخرج ابن الزبير إلى مكة ، ولزم الحجر ، ولبس المعافري ، وجعل يحرض على بني أمية ، ومشى إلى يحيى بن حكيم الجمحي والي مكة فبايعه ليزيد ، فلم يرض يزيد حتى يؤتى به في جامعة ووثاق ، فقال له ولده معاوية بن يزيد : ادفع عنك الشر ما اندفع ، فإن ابن الزبير لجوج لا يطيع لهذا أبدا ، فكفر عن يمينك ، فغضب ، وقال : إن في أمرك لعجبا ! قال : فادع عبد الله بن جعفر ، فاسأله عما أقول .

                                                                                      فدعاه ، فقال له : أصاب ابنك أبو ليلى . فأبى أن يقبل ، وامتنع ابن الزبير أن يذل نفسه ، وقال : اللهم إني عائذ بيتك ، فقيل له : عائذ البيت . وبقي لا يعرض له أحد . فكتب يزيد إلى عمرو الأشدق والي المدينة أن يجهز إلى ابن الزبير جندا ، فندب لقتاله أخاه عمرو بن الزبير في ألف ، فظفر ابن الزبير بأخيه بعد قتال ، فعاقبه . وأخر عن [ ص: 373 ] الصلاة بمكة الحارث بن يزيد ، وقرر مصعب بن عبد الرحمن بن عوف ، وكان لا يقطع أمرا دون المسور بن مخرمة ، ومصعب بن عبد الرحمن ، وجبير بن شيبة ، وعبد الله بن صفوان بن أمية ، فكان يشاورهم في أمره كله ، ويريهم أن الأمر شورى بينهم لا يستبد بشيء منه دونهم ويصلي بهم الجمعة ، ويحج بهم بلا إمرة . وكانت الخوارج وأهل الفتن قد أتوه ، وقالوا : عائذ بيت الله ، ثم دعا إلى نفسه ، وبايعوه ، وفارقته الخوارج .

                                                                                      فولى على المدينة أخاه مصعبا ، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع ، وعلى مصر عبد الرحمن بن جحدم الفهري ، وعلى اليمن ، وعلى خراسان ، وأمر على الشام الضحاك بن قيس ، فبايع له عامة أهل الشام ، وأبت طائفة ، والتفت على مروان بن الحكم ، وجرت أمور طويلة ، وحروب مزعجة ، وجرت وقعة مرج راهط وقتل ألوف من العرب ، وقتل الضحاك ، واستفحل أمر مروان إلى أن غلب على الشام ، وسار في جيش عرمرم ، فأخذ مصر ، واستعمل عليها ولده عبد العزيز ، ثم دهمه الموت ، فقام بعده ولده الخليفة عبد الملك ، فلم يزل يحارب ابن الزبير حتى ظفر به بعد أن سار إلى العراق ، وقتل مصعب بن الزبير .

                                                                                      قال شعيب بن إسحاق : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ؛ أن يزيد كتب إلى ابن الزبير : إني قد بعثت إليك بسلسلة فضة ، وقيدا من ذهب ، وجامعة من فضة ، وحلفت لتأتيني في ذلك ، فألقى الكتاب ، وأنشد :

                                                                                      ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

                                                                                      [ ص: 374 ]

                                                                                      قلت : ثم جهز يزيد جيشا ستة آلاف ، إذ بلغه أن أهل المدينة خلعوه ، فجرت وقعة الحرة وقتل نحو ألف من أهل المدينة ، ثم سار الجيش ، عليهم حصين بن نمير ، فحاصروا الكعبة ، وبها ابن الزبير ، وجرت أمور عظيمة ، فقلع الله يزيد ، وبايع حصين وعسكره ابن الزبير بالخلافة ، ورجعوا إلى الشام .

                                                                                      قال شباب : حضر ابن الزبير الموسم سنة ثنتين وسبعين ، فحج بالناس ، وحج بأهل الشام الحجاج ، ولم يطوفوا بالبيت .

                                                                                      قال هشام بن عروة : أول من كسا الكعبة الديباج ابن الزبير ، وكان يطيبها حتى يوجد ريحها من طرف الحرم ، وكانت كسوتها قبله الأنطاع .

                                                                                      قال عبد الله بن شعيب الحجبي : إن المهدي لما جرد الكعبة ، كان فيما نزع عنها كسوة ابن الزبير من ديباج مكتوب عليها " لعبد الله أبي بكر أمير المؤمنين " .

                                                                                      وقال الأعمش : عن أبي الضحى : رأيت على رأس ابن الزبير مسكا يساوي مالا .

                                                                                      قلت : عيب ابن الزبير - رضي الله عنه - بشح ، فروى الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عبد الله بن مساور ؛ سمع ابن عباس يعاتب ابن [ ص: 375 ] الزبير في البخل ، ويقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس المؤمن الذي يبيت [ شبعان ] وجاره جائع .

                                                                                      وروى عبيد الله بن عمر ، عن ليث ، قال : كان ابن عباس يكثر أن يعنف ابن الزبير بالبخل ، فقال : كم تعيرني .

                                                                                      يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى ، عن عثمان : أن ابن الزبير قال له حيث حصر : إن عندي نجائب ، فهل لك أن تتحول إلى مكة ، فيأتيك من أراد أن يأتيك ؟ قال : لا . إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله ، عليه مثل نصف أوزار الناس .

                                                                                      رواه أحمد في " مسنده " وفي إسناده مقال . [ ص: 376 ]

                                                                                      عباس الترقفي ، حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن عمرو : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يلحد بمكة رجل من قريش ، يقال له : عبد الله ، عليه نصف عذاب العالم " فوالله لا أكونه ، فتحول منها ، وسكن الطائف .

                                                                                      قلت : محمد هو المصيصي لين واحتج به أبو داود والنسائي .

                                                                                      أبو النضر : حدثنا إسحاق بن سعيد ، أخبرنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمرو عبد الله بن الزبير ، فقال : إياك والإلحاد في حرم الله ، فأشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يحلها - وتحل به - رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها .

                                                                                      قال : فانظر يا ابن عمرو لا تكونه
                                                                                      . وذكر الحديث .

                                                                                      شعيب بن أبي حمزة : عن الزهري ، أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ الحجرات : 9 ] قال : قلت لأبي : من هم ؟ قال : ابن الزبير بغى على أهل الشام .

                                                                                      ورواه يونس ، عن الزهري ، وفيه : بغى على هؤلاء ، ونكث عهدهم .

                                                                                      الزبير بن بكار : حدثني خالد بن وضاح ، حدثني أبو الخصيب نافع مولى آل الزبير ، عن هشام بن عروة ، قال : رأيت الحجر من المنجنيق يهوي حتى أقول : لقد كاد أن يأخذ لحية ابن الزبير . وسمعته يقول : والله إن أبالي إذا وجدت ثلاثمائة يصبرون صبري لو أجلب علي أهل الأرض . [ ص: 377 ] قلت : قد كان يضرب بشجاعته المثل .

                                                                                      وعن المنذر بن جهم قال : رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلانا شديدا ، وجعلوا يتسللون إلى الحجاج ، وجعل الحجاج يصيح : أيها الناس ! علام تقتلون أنفسكم ؟ من خرج إلينا ، فهو آمن ، لكم عهد الله وميثاقه ورب هذه البنية . لا أغدر بكم ، ولا لنا حاجة في دمائكم .

                                                                                      قال : فتسلل إليه نحو من عشرة آلاف ، فلقد رأيت ابن الزبير وما معه أحد .

                                                                                      وعن إسحاق بن أبي إسحاق قال : حضرت قتل ابن الزبير ؛ جعلت الجيوش تدخل عليه من أبواب المسجد ، فكلما دخل قوم من باب ، حمل عليهم وحده حتى يخرجهم ، فبينا هو على تلك الحال ، إذ وقعت شرفة من شرفات المسجد على رأسه ، فصرعته ، وهو يتمثل :

                                                                                      أسماء يا أسماء لا تبكيني     لم يبق إلا حسبي وديني
                                                                                      وصارم لاثت به يميني



                                                                                      قلت : ما إخال أولئك العسكر إلا لو شاءوا ، لأتلفوه بسهامهم ، ولكن حرصوا على أن يمسكوه عنوة ، فما تهيأ لهم ، فليته كف عن القتال لما رأى الغلبة ، بل ليته لا التجأ إلى البيت ، ولا أحوج أولئك الظلمة والحجاج [ ص: 378 ] لا بارك الله فيه إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه . فنعوذ بالله من الفتنة الصماء .

                                                                                      الواقدي ، حدثنا فروة بن زبيد ، عن عباس بن سهل : سمعت ابن الزبير يقول : ما أراني اليوم إلا مقتولا ، لقد رأيت في ليلتي كأن السماء فرجت لي ، فدخلتها ، فقد والله مللت الحياة وما فيها ، ولقد قرأ يومئذ في الصبح ن والقلم حرفا حرفا ، وإن سيفه لمسلول إلى جنبه .

                                                                                      الواقدي : حدثنا عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، قال : سمع ابن عمر التكبير فيما بين المسجد إلى الحجون حين قتل ابن الزبير ، فقال : لمن كبر حين ولد أكثر وخير ممن كبر لقتله .

                                                                                      معمر : عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : قال ابن الزبير : ما شيء كان يحدثنا كعب إلا قد أتى على ما قال ، إلا قوله : فتى ثقيف يقتلني . وهذا رأسه بين يدي ، يعني : المختار الكذاب .

                                                                                      زياد الجصاص : عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، أن ابن عمر قال لغلامه : لا تمر بي على ابن الزبير ، يعني : وهو مصلوب . قال : فغفل الغلام ، فمر به ، فرفع رأسه ، فرآه ، فقال : رحمك الله أبا خبيب ، ما علمتك إلا صواما قواما ، وصولا لرحمك . أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت أن لا يعذبك الله . ثم قال : حدثني أبو بكر الصديق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من يعمل سوءا يجز به في الدنيا . [ ص: 379 ]

                                                                                      قال ابن أبي الدنيا في كتاب " الخلفاء " : صلبوا ابن الزبير منكسا ، وكان آدم ، نحيفا ، ليس بالطويل ، بين عينيه أثر السجود . بعث عماله إلى المشرق كله والحجاز .

                                                                                      قال جويرية بن أسماء : عن جدته ؛ أن أسماء بنت أبي بكر غسلت ابن الزبير بعد ما تقطعت أوصاله ، وجاء الإذن من عبد الملك بن مروان عندما أبى الحجاج أن يأذن لها ، فحنطته ، وكفنته ، وصلت عليه ، وجعلت فيه شيئا حين رأته يتفسخ إذا مسته .

                                                                                      وقال مصعب بن عبد الله : حملته أمه فدفنته بالمدينة في دار صفية أم المؤمنين ، ثم زيدت دار صفية في المسجد ، فهو مدفون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني بقربه .

                                                                                      قال ابن إسحاق وعدة : قتل في جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين .

                                                                                      ووهم ضمرة وأبو نعيم فقالا : قتل سنة اثنتين .

                                                                                      عاش نيفا وسبعين سنة - رضي الله عنه .

                                                                                      وماتت أمه بعده بشهرين أو نحو ذلك ، ولها قريب من مائة عام .

                                                                                      هي آخر من ماتت من المهاجرات الأول - رضي الله عنها - ، ويقال لها : ذات النطاقين . كانت أسن من عائشة بسنوات . [ ص: 380 ]

                                                                                      روت عدة أحاديث .

                                                                                      حدث عنها أولادها ؛ عبد الله ، وعروة ، وابن عباس ، وفاطمة بنت المنذر ، وابن أبي مليكة ، ووهب بن كيسان ، وابن المنكدر ، والمطلب بن عبد الله ، وخلق .

                                                                                      وهي وابنها عبد الله ، وأبوها أبو بكر ، وجدها أبو قحافة صحابيون ، أضرت بأخرة .

                                                                                      قال ابن أبي الزناد : كانت أكبر من عائشة بعشر سنين . قلت : فعلى هذا يكون عمرها إحدى وتسعين سنة .

                                                                                      وأما هشام بن عروة ، فقال : عاشت مائة سنة ، ولم يسقط لها سن . وقد طلقها الزبير قبل موته زمن عثمان .

                                                                                      وقال القاسم بن محمد : كانت أسماء لا تدخر شيئا لغد .

                                                                                      وقيل : أعتقت عدة مماليك ، وقد استوفيت ترجمتها في " تاريخ الإسلام " رضي الله عنها . ومن أولادها ، عروة بن الزبير الفقيه . ومنهم :

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية