الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فتوحات وانتصارات بشَّر بها النبي

فتوحات وانتصارات بشَّر بها النبي

فتوحات وانتصارات بشَّر بها النبي

من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته إخباره عن فتوحات وانتصارات للمسلمين لم تحدث بعد، ثم وقعت بعد وفاته كما أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه، مثل: فتح الحِيرة، وفتح مصر ودخولها في الإسلام، وكذلك فتح اليمن والشام والعراق، وانتصار المسلمين على فارس والروم وهما أعظم وأكبر قوتين في العالم حينئذ.. وهذه البشريات والوعود النبوية كانت غريبة في توقيتها، إذ بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان بعضها وهو في مكة، وقريش تحاربه وتحاول القضاء عليه وعلى دعوته، وكان المسلمون حينئذ في حالة ضعف شديد. فعن خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري، قال ابن بطال: "وفيه: علامات النبوة وذلك خروج ما قال صلى الله عليه وسلم من تمام الدين، وانتشار الأمر وإنجاز الله ما وعد نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك".

وأخبر وبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ببعض هذه الفتوحات والانتصارات في غزوة الأحزاب أثناء حفرهم للخندق، وأعداؤه حوله يحاصرونه من كل جانب. ولذلك كان المنافقون يعلقون ساخرين على تبشير النبي صلى الله عليه وسلم ووعده لأصحابه بأنهم سيُنْصَرون على فارس والروم قائلين لهم: يُخبركم نبيكم أنه يُبْصِر قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تقضوا حاجتكم؟!. ومع ذلك وقع ما أخبر وبشر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من فتوحات وانتصارات.

ـ فتح الحِيرة :

الحيرة مدينة قديمة قرب الكوفة في العراق. وفي السنة التاسعة للهجرة النبوية وبعد غزوة تبوك، بشَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفتح الحيرة، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مُثِّلتْ ليَ الحيرةُ كأنياب الكلاب وإنكم ستفتحُونها) رواه الطبراني وصححه الألباني. (مُثِّلتْ لي الحيرة) أي: رُفِعت له صلى الله عليه وسلم فرآها يقظة أو مناما، ووصفها وبشَّر أمته بفتحها. وقد كان تصور انتصار المسلمين وفتحهم للحيرة بالعراق أمراً أبعد من الخيال عند البعض، ومع ذلك وقع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من فتح الحيرة، ففي السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية ـ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ـ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعام، وقع ما أخبر وبشَّر به أصحابه من فتح الحيرة.

ـ فتح مصر ودخولها في الإسلام :

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مصر، ودعا إلى الإحسان إلى أهلها إكراماً لهاجر أم إسماعيل، فقد كانت من أرض مصر، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما ـ أو قال: ذمة وصهرا ـ، فإذا رأيتَ رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها، قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها) رواه مسلم. قال النووي: "قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به، وأما الذمة فهي الحرمة والحق، وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم ـ ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ منهم، وفيه: معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، منها إخباره بأن الأمة تكون لهم قوة وشوكة بعده بحيث يقهرون العجم والجبابرة، ومنها أنهم يفتحون مصر، ومنها تنازع الرجلين في موضع اللبنة، ووقع كل ذلك ولله الحمد". وقد تحقق فتح مصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه في العام السادس عشر من الهجرة النبوية.

ـ فتح اليمن والشام والعراق :

في غزوة الأحزاب والمسلمون في حال شديدة من جوع شديدٍ وبردٍ قارصٍ، وعددٍ قليلٍ وأعداء كُثر، وفي أثناء حفر الخندق شكا الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الفأس وقال: (بسم الله، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) رواه أحمد وحسنه الألباني. وفي إشارة نبوية أخرى أخرى لفتح المسلمين الشام والعراق واليمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن حوالة رضي الله عنه: (سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مُجَنَّدَةٌ، جُنْدٌ بالشام، وَجُنْدٌ باليمن، وَجُنْدٌ بالعراق) رواه أبو داود وصححه الألباني. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتح اليمن، وقد فُتِحَت في آخر حياته، كما أخبر عن فتح الشام والعراق، وقد فُتح بعضها في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبعضها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال النووي: "قال العلماء: في هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر بفتح هذه الأقاليم.. وأن هذه الأقاليم تفتح على هذا الترتيب: اليمن ثم الشام ثم العراق، ووجِد جميعُ ذلك كذلك بحمد الله وفضله". وقال ابن حجر: "قوله: (تفتح اليمن) قال ابن عبد البر وغيره: افتُتِحَت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها، وفي هذا الحديث عَلم من أعلام النبوة، فقد وقع على وِفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ترتيبه".

ـ الانتصار على فارس والروم :

عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق، عرض لنا فيه حجر لا يأخذ فيه المعول (لا تؤثر فيه)، فاشتكينا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول، وقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة، قال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الآن من مكاني هذا، ثم ضرب أخرى، وقال: بسم الله، وكسر ثلثا آخر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة، وقال: بسم الله فقطع الحجر، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء) رواه أحمد.. ولما بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالفتوحات والانتصار على فارس والروم وهما حينئذ أقوى دول الأرض، والمسلمون في حالة من الضعف الشديد أثناء حصارهم وحفرهم للخندق في غزوة الأحزاب، قال لهم المنافقون ساخرين متهزئين: "ألا تعجبون يحدثكم ويمنيكم ويعدكم بالباطل، يخبركم أنه بصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق، ولا تستطيعون أن تبرزوا (تقضوا حاجتكم)" رواه البيهقي. وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سنة ثلاث عشرة وقيل خمس عشرة من الهجرة النبوية، وقعت موقعة اليرموك التي قادها خالد بن الوليد رضي الله عنه وهزم فيها الروم هزيمة ساحقة، وفتح المسلمون الشام.. وفي السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وقعت أحداث معركة القادسية، التي انتصر فيها المسلمون انْتِصَاراً بَاهِراً على الفرس، وفتحوا فيها بلاد العراق، وكانت بقيادة سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه وبشَّر به أصحابه بانتصارهم على فارس والروم.

لقد بشَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه بفتوحات وانتصارات كثيرة، مثل: فتح الحيرة، واليمن والشام والعراق، وانتصار المسلمين على فارس والروم، وإنفاق كنوزهما في سبيل الله، وكذلك فتح مصر ودخولها في الإسلام، وقد وقع وحدث كل ما أخبر وبشر به النبي صلى الله عليه وسلم وِفْق ما أخبر به، وفي ذلك دليل من دلائل نبوته، ومعجزة من معجزاته، وتأكيد على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى، كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}{النَّجم 4:3)، إذ لا سبيل إلى معرفة الغيب إلا بوحي من الله عزّ وجل، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجـن:26: 27). قال البغوي: "{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب، لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة